المولد النبوي بين الجفاء والادعاء


حينما اجتمع رأي غالبية المسلمين على سن الاحتفاء بالمولد النبوي كانوا يعلمون أن ذلك وسيلة من الوسائل التي يظهرون بها الفرحة والابتهاج بالرسول والرسالة، ويستلهمون منها معاني المحبة والصمود والثبات على المبادئ، ويقوموا بواجب التعريف بصفات المصطفى ﷺ وحقوقه ومواقفه.
ولا يجب أن ننسى في هذا المقام أن العلماء المسلمين لم يغب عنهم في يوم من الايام أن الصحابة والسلف الصالح لم يخصوا ذكرى المولد النبوي باحتفاء خاص، لأنهم وبكل بساطة كانوا يعيشون مع الرسول ورسالته كل يوم وكل ساعة، شبرا بشبر، ولكن حينما طال الأمد، وقست القلوب، وبعدت الشقة، واستشرى المرض في أوصال الأمة احتاج الناس لوسائل تجدد الإيمان في الناس، لعل لاهيا يسمع فينبه، أو غافلا ينصت فينزجر.
لا بد أن نعترف أن الأمة الإسلامية اليوم تعيش حالة من الضعف والمرض المستشري، وهي بالتالي تحتاج لمن يأخذ بيدها من خلال فقه تديني واعٍ، يراعي الأحوال، ويعتبر الغايات ويفقه المآلات، وكما أنه يشرع في حالة مرض الناس وسقمهم ما لا يشرع في حالة سلامتهم وصحتهم، فإن الاستعانة بوسائل غير ثابتة من ترسيخ ما هو ثابت أمر لا حرج فيه، بل أنه يأخذ حكم الغاية منه، وفي القواعد المعروفة عند العلماء أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إن الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف في رأينا وقع ضحية مذهبين متطرفين: (مذهب أهل الجفاء) الذي اعتبر المسألة مرفوضة جملة تفصيلا، باعتباره بدعة لم تؤثر عن القرون الثلاثة الأولى، (مذهب أهل الادعاء) الذين جعلوا الاحتفاء طقوسا جوفاء، وعادات رعناء، فكانت بذلك صورا لا حقيقة لها، ودعاوى لا روح لها.
والذي عليه انر الأمة وكلماتها الراسخون أن الاحتفال بالمولد النبوي سنة من السنن التي تشهد لها النصوص القرآنية والنبوية ويشهد لها العقل والفكرة السليمة
فالنصوص الثابتة تجعل من ولادة الأنبياء والرسل والأولياء والصالحين محطة مضيئة في تاريخ الإنسانية، وقد قال القرآن عن ولادة عيسى عليه السلام: (وسلام علي يوم ولدت)، وقد سئل رسول الله ﷺ عن صوم يوم الاثنين فقال : (ذلك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه).
روى الإمام البخاري تعليقا أن سيدنا العباس رأى أخاه أبا لهب بعد موته في النوم فقال له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين وأسقى من بين إصبعي هاتين ماء فأشار إلى رأس إصبعيه، وإن ذلك بإعتاق ثويبة عندما بشرتني بولادة النبي وبإرضاعها له .
وقد قال العلامة الحافظ شمس الدين بن الجزري في عرف التعريف بالمولد الشريف بعد ذكره قصة أبي لهب مع ثويبة:
فإذا كان هذا أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي ﷺ، فما حال المسلم الموحد من أمته عليه السلام ، يسر ويفرح بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته ﷺ ؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم .
والانصاف أمر واجب في حكم المولد النبوي، والاعتراف مطلوب، فلا جفاء ولا ادعاء، ورحم الله شيخ الإسلام أبا الفضل أحمد بن حجر العسقلاني حينما سئل عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا ، قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي ﷺ قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سُنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه: فهذا ما يتعلق بأصل عمله، وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به وما كان حراما أو مكروها فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى.
إن العالم من أوله إلى آخره لم يعرف بشرا مصفى، زكي السيرة والسريرة، مثل ما عرف في نبينا محمد ﷺ، ولم يعرف إنسانا شق طريق الكمال، ومهّد الخير للناس ودعاهم إلى الخير، ولو خلقت القلوب من حديد لما حملت ما تحمل ﷺ من العذاب، إنه لا يعرف قدر محمد وعظمته، إلا من درس تاريخ الأمم والمصلحين وساستهم ورواد الحضارات والدول، ليرى أن هؤلاء كلهم يتلاشون في نوره، ويتضاءلون أمام هديه، ولذلك فليس مدحه من قبيل تصنع الأفعال، وافتعال ما لا ينبغي، وليس الاحتفال بمولده ألفاظا تلوكها الألسن، أو قصائد تتلى بغير فهم، كلا ثم كلا، فحقيقة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق ما يصفه الواصفون، ويذكره به الذاكرون، وما قدمه من الجميل لا يعرف إلا الإنسان النبيل، الذي يجعل من يوم ولادته عيدا بكل المقاييس.
انتهى.