الحكمة: 3


إذا كان مصطلح الهمّ يطلق على بداية الإرادة وأولها، فإن الهمة تطلق على مرحلة قوة الإرادة ومنتهاها، وتوصف بالعلوّ والسبق، كما توصف بالسفول والتخلف، وتعرّف الهمّة العالية بكونها عبارة عن استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وذلك حين يتوجه القلب ويقصد بكليته وجميع قواه الحسية والمعنوية جانب الحق والخير لحصول الكمال الممكن، غير أن همَّة الإنسان مهما علت، وقوةَ انبعاث قلبه مهما سمت، فإنهما لا يخرقان أسوار قضاء الله وقدره، ولا يكون شيء منهما في هذا الكون إلا بإرادة الله وقضائه، فهما يدوران مع القدر كيفما دار، لا حول لهما ولا قوة إلا بالعزيز القهار، «وكان الله على كل شيء مقتدرا» الكهف: 45

عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: « كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ» رواه مسلم وأحمد وابن حبان ومسلم والبيهقي، ومعنى ذلك أن اجتهادَ المرء أمرٌ مطلوب، ولكن هذا الأمر مهما بلغ من الإحكام والإتقان لازمٌ وعاجزٌ عن خرق ما جرت به الأقدار، ولا يمكنه أن يأتي بنتيجة إلا إذا تحقق العون من الله، وإلا كان اجتهاد الإنسان سببا في الجناية عليه وخيبته، قال أحدهم:

إِذا لمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتى +++ فأوَّلُ ما يَجْني عَلَيْهِ اجْتِهادُهُ

وقد خلَق اللهُ الخَلْقَ وهدَى الناسَ إلى مَعرِفَةِ الخيرِ والشرِّ، وأرسَل الرُّسُلَ مبشِّرين ومُنذِرين، وموضِّحين الحقَّ، وجَعَل الحِسابَ والجزاءُ في الآخِرَةِ دونَ ظُلمٍ لأحدٍ، وهو سبحانه يَعلمُ أزلًا أحوال الناسِ ومساراتهم ومصائرهم يوم القيامةِ، وفي هذا الحديثِ يقول عمرانُ بن حُصين رضي الله عنه: قال رجلٌ: «يا رسولَ الله، أَيُعْرَفُ أهلُ الجنَّةِ مِن أهلِ النَّارِ؟ »، فقال النبيُّ ﷺ: نَعَم، فقال الرَّجلُ: « فلِمَ يعملُ العامِلون؟! » ، فقال النبيُّ ﷺ: « كلٌّ يعملُ لِمَا خُلِق له» أو « لِمَا يُسِّرَ له» رواه البخاري

فكلُّ إنسانٍ يعملُ في الدُّنيا، وقد أعطاه اللهُ وسائلَ التَّميِيزِ بينَ الخيرِ والشرِّ، وبيَّن له طريقَ الحقِّ والباطلِ، فكلُّ إنسانٍ يختارُ مِن الأعمالِ ما يُرِيد، ويوصِّله يوم القيامة إلى المصيرِ المحتومِ الجنَّةِ أو النَّارِ، ولكنَّ النِّهايةَ مجهولة، والمآلَ مخفيٌّ عن النَّاسِ لحكمةٍ يَعلمُها اللهُ عزَّ وجلَّ. وقد علم الله في الأزل ما سيخلقه من عباده، وعلم ما هم فاعلون، وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ، وخلقهم الله كما شاء، ومضى قدر الله فيهم، فعملوا على النحو الذي شاءه فيهم، وهدى مَن كتب الله له السعادة، وأضل مَن كتب عليه الشقاوة، وعلم أهل الجنة ويسرهم لعمل أهلها، وعلم أهل النار ويسرهم لعمل أهلها، قال تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ» الصافات:96، وقال: « وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» الصافات:52، وقال: «وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» فاطر:11، وقال: «مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» الأعراف:178، وقال: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» النحل: 125، وجاءت أحاديث كثيرة تواتر معناها على أن رب العباد علم ما العباد عاملون، وقدّر ذلك وقضاه وفرغ منه، وعلم ما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاء، وأخبرت مع ذلك كله أن القدر لا يمنع من العمل،« اعملوا فكل ميسر لما خلق له». رواه البخاري

فكل شيء سابق في علم الله، جرى به القلم قبل الخلق، واجتهاد الإنسان لا يمكنه أن يخالف ما جرى به القدر والقلم ، عَنْ عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ: « كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ الله ﷺ، فَقَالَ: « يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» رواه الترمذي. ومن شأن الإيمان بهذه بما جاء في حكمة ابن عطاء الله هذه، أن تزرع في قلب المؤمن أمورا، نختصرها في أمور:

الأمر الأول: أهمية المسارعة إلى الخيرات، والعمل على طرق أبواب الرزق، والسير وفق سنن الله في الخلق، والسير في الأرض طلبا للأرزاق الحسية والمعنوية، يقول تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ » الملك: 15، فمن نعم الله على خلقه أن سخر لهم الأرض وما فيها، وذللها لهم، وهيأ فيها المنافع ومواضع الزروع والثمار، والإنسان مأمور بأن يمدّ يديه، ويتحرك برجليه، ويسافر في أقطارها ، ويتردد في أرجائها بأنواع المكاسب والتجارات، دون أن ينسى أن سعيه لا يجدي عليه شيئا ، إلا أن ييسره الله له، ولهذا قال: « وكلوا من رزقه » فالسعي في السبب لا ينافي التوكل كما قال الإمام أحمد، عن عمر بن الخطاب يقول: إنه سمع رسول الله ﷺ يقول : « لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن هبيرة وقال الترمذي : حسن صحيح . ومحل الشاهد في الحديث أن النبي ﷺ أثبت للطير حركة وتفاعلا مع قوانين الله وسننه في الأرض، بالرواح والغدو لطلب الرزق ، مع توكلها على الله ، عز وجل ، وهو المسخر المسير المسبب، ولا تعارض بين الأمرين إلا في عقول أشباه المتدينين الجاهلين للسنن والقواعد.

والأمر الثاني: المستفاد من حكمة ابن عطاء الله، هو عدم اليأس والإحباط في حالة عدم النجاح في الوصول إلى المبتغى، والعمل المرتضى، باعتبار أن الهمة تبقى عاجزة عن تحدي الإرادة الالهية والأقدار الربانية، قال تعالى: « مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» الحديد: 22

والأمر الثالث: الذي نستخلصه من حكمة ابن عطاء الله يتعلق بأهمية غرس روح السكينة والتفاؤل في قلوب المؤمنين، وذلك بالدعوة إلى شدة التعلق بالله، والتوكل عليه، فالمؤمن كما أنه مطالب بالعمل والأخذ بأسباب العيش، فهو مأمور بأن يذعن لقانون الاختيار الإلهي، والحذر مهما كان سابقا فإنه لا يغني عن القدر، وبذلك يتحقق الأنس بالله، وتزول الوحشة.