الحكمة: 4


إذا كانت الهمم لا تخرق أسوار الأقدار، فالتدبير والاختيار والتخطيط لشؤون الحياة وضروراتها، كل ذلك مطلوب، ولكن وفق سنة العبودية، واستخارة علم الله، دون تعسف ولا تكلف، ولذا فالمؤمن يريح نفسه من التدبير الممقوت وهو ما كان على خوف من المستقبل وطمع بلا حدود، واهتمام زائد، يأخذ بالأسباب المطلوبة، ويعلم أن الخير كله فيما يختاره الله، ولذلك قال: "أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك". والتدبير على ثلاثة أقسام: مذموم ومطلوب ومباح.

فأما التدبير المذموم فهو التدبير المصاحب للتكلف والهمّ والجزم والتصميم من غير استخارة الله وطلب حوله وقوته، وهو منهي عنه لأنه يناقض حقيقة العبودية. وأما التدبير المطلوب فهو التدبير في الواجبات والطاعات مع تفويض المشيئة والنظر في القدرة الإلهية، وهذا يسمى بالنية الصالحة، ونية المؤمن خير من عمله، يقول النبي ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَال" إِنّ الله كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ. ثُمّ بَيّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً".

وأما التدبير المباح فهو التدبير في شؤون الدنيا والمعاش مع تفويض المشيئة لله تعالى وقدرته وعلمه وإرادته، وقوام العيش، كما قيل، حسن التقدير، ومِلاكهُ حسن التدبير، وروي عن أنس أن النبي ﷺ قال : "حسن التدبير نصف العيش" أخرجه القضاعي في مسند الشهاب ولعل ابن عطاء الله يقصد بـ"التدبير" هذا النوع من التدبيرالمذموم، وهو سبب يؤدي إلى وجودَ التكديرِ، ومنازعة الحكمِة الإلهية والتقديرِ الرباني، يقول تعالى: "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ ... } وقال أيضا " : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ السجدة/5-6 .

وفي الحديث: عَن ابنِ عَباسٍ، قال: قال رَسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ العَبدَ يُشرِفَ عَلَى الحاجَةِ مِن حاجاتِ الدُّنيا فَيَذكُرُهُ اللَّهُ مِن فَوقِ سَبعِ سَماواتٍ، يَقُولُ: مَلائِكَتِي، إِنَّ عَبدِي هَذا قَد أَشرَفَ عَلَى حاجَةٍ مِن حَوائِجِ الدُّنيا فَإِن فَتَحتَها لَهُ فَتَحتُ لَهُ بابا مِنَ النارِ، ولَكِن أَرُدُّ بِها فَيُصبِحُ عاضًّا عَلَى أَنامِلِهِ يَقُولُ: مَن سَعَى؟ ومَن دَها لِي؟ ما هِيَ إِلاَّ رَحمَةٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِها»"، قال المُؤَلِّفُ: تفرد به صالح، قال الدارقطني: هو متروك. قال داؤود - عليه السلام -: رب أي عبادك أبغض إليك؟ قال: عبد استخارني في أمر فاخترته له فلم يرض به..

ولا بد للمؤمن أن يعلم أن لله - تعالى -ألطافا خفية قلّما ينتبه إليها، يعتبرها الناس منعا وهي عين العطاء، ويظنونها محنة وهي منحة، فكم من رسوب أعقبه نجاح بامتياز، وكم من وجع كان سببا في اكتشاف مرض لو بقي مجهولا لكان خطرا على صاحبه، والخير فيما اختاره الله، روى مسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ رضِيَ الله عنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " فالإنسان لو كنت يعلم حقيقة تدبير الله له، لازداد حباً فيه وشغفا به:

تـجـولت بالـفـكـر فـي هل أتى و قلت لقلبـي كفـاك الجليـل يـدبـر امـري و لا عـلـم لــــي هو الله حسبي و نعم الوكيل

وأستحضر هنا قصة البطل العالمي في الملاكمة الأمريكي المسلم محمد علي كلاي حين وجّه له أحد الصحافيين سؤالا يقول فيه: هل عندك حراس شخصيون؟ فكان جوابه بلا تردد، نعم، لدي حارس شخصي واحد، هو يبصر بلا عيون، ويسمع بلا آذان، ويتذكر كل شيء دون مساعدة عقل أو ذاكرة، إذا أراد أن يخلق شيئا يقول له كن فيكون، أوامره لا ينقلها لسان أو تسمعها آذانـ يعلم الأسرار في أعماق خواطرنا، هو من يوقفهم، فمن يكون؟ هو الله، هو حارسي الشخصي، وحارسكم الشخصي، هو المتعالي الحكيم، ولا يمكنني أن ألومه في الحقيقة، لو كان لدي حارسشخصي لأخبرته أني لا أثق به، سأحترس منه وأصبح مرتابا، وأحترس من الناس، كلا فالله حارسي".

قال القشيري بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى: لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ، لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً، والاختيارُ للحق نعتُ عز، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ، ونعتُ ملام وقصور، فاختيارُ العَبْدُ على غيرُ مُبَارَكٍ له، لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح. والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها، فما للمختار والاختيار؟! وما للمملوكِ والمِلْك؟! وما للعبيد في دَسْتِ الملوك؟! قال تعالى: { ما كان لهم الخيرة }.فإذا علمت، أيها العبد، أن الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، لم يبق لك مع الله اختيار، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك، ولذلك قيل: العارف لا يعارض ما حلّ به، فقراً كان أو غنى.

قال اللجائي في كتاب قطب العارفين: الراضي شبه ميت، لا نفس له، يختار لها، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد، وهو أعلم سبحانه بعبيده، وما يصلحون به، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر، ومنهم من يصلح بالمنع ولا يصلح بالعطاء، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعاً، وهو أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن، { وربك يخلق ما يشاء ويختار... } الآية، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين.