الحكمة: 5


الإجتهاد في الشيء إستفراغ الجهد والطاقة في طلبه، والتقصير هو التفريط والتضييع، والبصيرة ناظر القلب كما أن البصر ناظر القالب.

فإذا أراد الله فتح بصيرة العبد أشغله في الظاهر بخدمته وفي الباطن بمحبته ، فكلما عظمت المحبة في الباطن والخدمة في الظاهر قوي نور البصيرة ، حتى يستولى على البصر فيغيب نور البصر في نور البصيرة فلا يرى إلا ما تراه البصيرة من المعاني اللطيفة والأنوار القديمة. وإذا أراد الله خذلان عبده أشغله في الظاهر بخدمة الأكوان وفي الباطن بمحبتها ، فلا يزال كذلك حتى ينطمس نور بصيرته فيستولى نور بصره على نور بصيرته ، فلا يرى إلا الحس ولا يخدم إلا الحس ، فيجتهد في طلب ما هو مضمون من الرزق المقسوم ويقصر فيما هو مطلوب منه من الفرض المحتوم.

قال الشيخ زروق وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنهما: البصيرة كالبصر ، أدنى شيء يقع فيه يمنع النظر، وإن لم ينته إلى العمى، فالخطرة من الشيء تشوش النظر وتكدر الفكر، والإرادة له تذهب بالخير رأساً والعمل به يذهب عن صاحبه سهماً من الإسلام فيما هو فيه ويأتي بضده ، فإذا أستمر على الشر تفلت منه الإسلام فإذا انتهى إلى الوقيعة في الأمة وموالاة الظلمة حباً في الجاه والمنزلة ، وحباً للدنيا على الآخرة ، فقد تفلت منه الإسلام كله ، ولا يغرنك ما توسم به ظاهراً فإنه لا روح له إذ الإسلام حب الله وحب الصالحين من عباده. والشئ المضمون للعبد هو رزقه الذى يحصل له به قوام وجوده فى دنياه.

ومعنى كونه مضمونا أن الله تعالى تكفل بذلك ، وفرغ العباد عنه ، ولم يطلب منهم الاجتهاد فى السعى فيه ، ولا الاهتمام له.

والشئ المطلوب من العبد هو العمل الذى يتوصل به إلى سعادة الآخرة، والقرب من الله تعالى من عبادات وطاعات .

ومعنى كونه مطلوبا أنه موكول إلى اكتساب العبد له ، واجتهاده فيه، ومراعاة شروطه وأسبابه وأوقاته .

بهذا جرت سنة الله تعالى فى عباده، قال الله عز وجل – فى المعنى الأول الذى ضمنه للعبد – وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) . وقال تعالى - فى المعنى الثانى الذى طلبه منه – ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ) . وقال إبراهيم الخواص : العلم كله فى كلمتين .. لاتتكلف ما كفيت ، ولا تضيع ما استكفيت .

وقال سيدى ابن عطاء الله السكندرى فى التنوير فى قوله تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) أي قم بخدمتنا ، ونحن نقوم لك بقسمتنا ، وهما شيئان : شيء ضمنه الله لك ، فلا تتهمه ، وشيء طلبه منك ، فلا تهمله ، فمن اشتغل بما ضمن له عما طلب منه فقد عظم جهله ، واتسعت غفلته ، وقل أن ينتبه لمن يوقظه بل حقيق على العبد أن يشتغل بما طلب منه عما ضمن له ، إذا كان الله سبحانه وتعالى قد رزق أهل الجحود كيف لا يرزق أهل الشهود، وإذا كان سبحانه قد أجرى رزقه على أهل الكفران ، كيف لا يَجري رزقُه على أهل الإيمان؟ّ.

فمن قام بهذا الأمر على الوجه الذى ذكرناه من الاجتهاد فى الأمر المطلوب منه ، وتفريغ القلب عن الأمر المضمون له فقد انفتحت بصيرته ، وأشرق نور الحق فى قلبه ، وحصل على غاية المقصود ، ومن عكس هذا الأمر فهو مطموس البصيرة ، أعمى القلب ، وفعله دليل على ذلك.

فقد علمت أيها العبد أن الدنيا مضمونة لك ، أي مضمون لك منها ما يقوم بأَودكَ والآخرة مطلوبة منك ، أي العمل لها ، لقوله سبحانه وتعالى :{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فكيف يثبت لك عقل أوبصيرة ، واهتمامك في ضمن لك - اقتطعك عن اهتمامك بما طلب منك من أمر الآخرة ، حتى قال بعضهم :{إن الله تعالى ضمن لنا الدنيا وطلب منا أمرالآخرة ، فليته ضمن لنا الآخرة ، وطلب منا الدنيا}.