العيش مع الذات – الحلقة 5


○ سلسلة العيش مع الذات: [كيف نفهم ذواتنا ونحترم أنفسنا]
الحلقة 5 | جدلية العطاء والأخذ | عبد الفتاح الفريسي
•◇• قالت هي: " أحب أن آخذ فرصة أختلي فيها بنفسي، وأرتاح من نار الاستغلال، الذي يأخذ دون عطاء"، وقال هو: "لا أحصل منها على ما أريد، مع أنِّي أقدِّم إليها كلَّ ما أقدر عليه"، وقرر آخر: "أنا دائماً في حالة قلقٍ واضطراب، فلطالما أُستَغَّلُ من قبل من حولي، إلى أن أصبحتُ إنساناً أعيش أزمة ثقةٍ بالآخر"، وأكدت أخرى: "هل يمكن اعتبار موقفي أنانيٌّة بلا مشاعر لمجرَّد أنِّيَ قد اعتذرتُ عن نيتي في الاختلاء بنفسي"، وختمت هي قائلة: "يا له من قطاع خاص ووظيفة تستهلك الطاقة، يأخذ الرؤساء كلَّ شيءٍ منكَ ولا يعطونك شيئاً".
يعكس هذ الحوار وأمثاله كثير، صراعا مجتمعيا يعالج بشدة مفهومي الأخذ والعطاء، يمكن أن نطرح ملخصها عبر سؤال هامٍ:
كيف نحقق آليةٌ العطاء دون أن نتحوَّل إلى ضحية نعطي ولا تأخذ؟
وكيف نستفيد من الأخذ دون أن نسقط في مفازة النرجسية المجتمعية والأنانيٍّة واستغلال الآخر؟
○ تعريف العطاء:
وقبل أن نجيب عن السؤال المطروح، نقترح أن نقرر بعجالة على أن العطاء يعني البذل في اتجاه الآخر ، وهو سلوك الإنسان المنسجم مع ذاته وقناعاته، والمحتفي بمشاعره؛ وهنا يأتي السؤال: "هل العطاء إيجابي الصِّبغَة دوماً؟ أم أنَّ السلبية قد تشوبه في بعض محطاته؟".
ويترتَّب الجواب ذلك على الدوافع التي تتحكم في الفعل العطائي، والقناعات المُصاحِبة له، والمشاعر المُرافقة لمساره.
والفرق بين العطاء الايجابي والسلبي يكون بحسب الدوافع والانتظارات، والنية المصاحبة لهما ، و(إنما الأعمال بالنيات) كما في الحديث النبوي، ولا فدقيم لأي عمل إذا غاب المقصد الشريف، يقول ابن عطاء الله: صور قائمة وحقيقتها وجود الإخلاص فيها.
وعلى هذا الأساس نقول إن المعطي المستمتع بما يعمل، يفرح بعطيته، أكثر من فرح من يتلقى عطاياه، ويشكر لمن يقبل منه عطاياه وهدياه، قبل أن يتطلع الى كلمة شكر أو ثناء ومدح، (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا)، وبالتالي فلن يجد ثمار عطاءاته، ولن يُقدِّر أحد إنجازات ذاك الذي يعيش دور الضحية، ويقضي يومه في حالةٍ من الشكوى والتذمر من طلبات الاخرين والتزاماته تجاههم، فهو يعطِي ويقدم من وقتها وحسه ومعناه، ولكن بمشاعر سلبيةٍ وضيق نفس؛ ممَّا يجعله مستهلكا لقواه الحسية والمعنوية
○ جدليَّة العطاء والأخذ:
تتباين مذاهب أغلب الناس حول مفهومي العطاء والأخذ، وهم في ذلك على ثلاثة اقسام:
¤ قسم "العطاء أولاً" يتبنَّى مبدأ البذل والعطاء، ويتعمَّق في ذلك حتَّى يصل إلى درجة المعاناة بسبب إحساسه بأنه ضحية مذهبيته.
¤ وقسم"الأخذ أولاً" ينحاز إلى ثقافة الأخذ والاستقبال، في نرجسية وطعيان الانا،
¤ وقسم ثالث "الأخذ والعطاء" يجمع بين المذهبين، ويؤلف بين الطرفين، ويمثل حقيقة التوازن، يأخذ ويعطي، ويتقاسم مع الغير النعمة والنقمة والمباني والمعاني، بعيدا عن سيطرة الغلو في العطاء أو التطرف في الأخذ.
ويبقى السؤال الأهمُّ: "تُرى مَن الأقسام يستحق الاقتداء، ومن منهم هو احق بالاهتداء؟ وأي الفريقين أحق بالامن؟".
○ العطاء المتوازن:
لا يتحقق العطاء المتوازن الواعي إلا عبر مجموعة من الأسس البانية وهي كما يلي:
• أولا- تقدير الذات: ويكون بأن نمنحها الأولويَّة في معاملتها والمشاعر المستحق ، فلا يوجد شيءٌ في العالم أهمُّ من ذاتك ونفسك، فلا يمكن للإنسان أن يعطي اذا حرم أقرب الأشياء اليه، نفسه التي بين جنبيه، ليكون العطاء صادرا عن حب وامتلاء، وليس عن قهر.
• ثانيا- النية الحسنة: فبها يكون العطاء مبنيا على أسس من المشاعر الإيجابية تحقق الفائدة والغرض المنشودين ويستقبل الطرف الآخر بكل تقدير.
• ثالثا- العطاء المناسب في المكان المناسب: بأن يكون في مكانه المستحق، بأن يكون في أهله المستحقين له، وإلا كان وسيلة تصنع معاني الإتكالية في الناس والسلبية واللامبالاة في المجتمع.
○ الأخذ المتوازن:
في القرآن وصف للفقراء من أهل الصُّفّة المتوازنين في أخذهم يقول فيهم الله تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا)، فحينما يوازن العطاء يتوازن معه الأخذ، فالأخذ المعتدل هو النتيجة الطبيعية للعطاء المعتدل، وهنا يطرح السؤال: "متى يكون الأخذ متوازناً؟
إذا كان العطاء المتوازن يمثل حالة الكرم والسلام في الإرسال يستشعر صاحبه الثقة المطلقة بأنَّ ما يعطيه هو واجب تمليه عليه معاني الإنسانية والإيمان، وأنه سيعود عليه ما أنفق أضعافاً مُضاعفةً راحة نفس ورزق حسي ومعنويا ورضا وسعادة في القلب، فإن الأخذ بدوره يمثل حالة الكرم والسلام في الاستقبال، يفتح صاحبه قلبه لمن يمد إليه يديه، وهو يعلم أن المعطي ليس أولى بالكرم من الآخذ، وليس بين المعطي والأخذ أي تمايز، ولولا الثاني ما كان للأول أي قيمة.
روي عن ابن عباس أنه قال: ثَلَاثَةٌ لَا أُكَافِئُهُمْ: رَجُلٌ وَسَّعَ لِي فِي الْمَجْلِسِ لَا أَقْدِرُ أَنْ أُكَافِئَهُ وَلَوْ خَرَجْتُ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا أَمْلِكُ، وَالثَّانِي مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ بِالِاخْتِلَافِ إِلَيَّ فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُكَافِئَهُ وَلَوْ قَطَرْتُ لَهُ مِنْ دَمِي، وَالثَّالِثُ لَا أَقْدِرُ أُكَافِئُهُ حَتَّى يُكَافِئَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِّي مَنْ أَنْزَلَ بِي الْحَاجَةَ لَمْ يَجِدْ لَهَا مَوْضِعًا غَيْرِي "
والشاهد أن المعطي أولى بالشكر من الآخذ، لأن الأخذ سبق المعطي في كرمه حينما أنزل حاجته بصاحبه، ولم يجد لها موضعا غيره، أحسن الظن به، ورأه أهلا لقضاء حاجته.
وفي الختام أضع بين يدي القارئ الكريم حكمة لابن عطاء الله السكندري تلخص آداب الأخذ المتزن من غير ذلة ولا استشراف نفس يقول فيها: (لا تمدن يدك إلى الأخذ من الخلائق إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك، فإذا كنت كذلك فخذ ما وافقك العلم).