العيش مع الذات – الحلقة 6


○ سلسلة العيش مع الذات: [كيف نفهم ذواتنا ونحترم أنفسنا]
الحلقة 6 | كيف نحبّ | عبد الفتاح الفريسي
•◇• ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال: (أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا ما، عسى أن يكون بَغِيضَكَ يومًا ما، وأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا ما عسى أن يكونَ حَبِيبَكَ يومًا ما) [1].
هذا الحديث أصل جليل في تعليم مبدإ الاعتدال في المشاعر، فالأصل في الإنسان السليم سلامة الصدر، وإخلاص المحبة وصفاء الود للناس، لكن اندفاع العواطف حباً وبغضاً إذا جاوز الحد فهو مذموم، فالشيء إذا جاوز حده، تحول إلى ضده، وقديما قالت العرب: ليس بعد البياض إلا البرص، وليس بعد التمام الا النقصان، والمثل المغربي يقول: (حد الحلاوة زبيبة).
كنت دائما أقول لأبنائي حفظهم الله: "سيأتي عليكم يوم تحبون فيه، والحب شيء جميل، لكن أوصيكم حين تحبون أن تحبوا برفق، وأوصيكم حين تكرهون أن تكرهوا باعتدال".
في الصحيحين أن النبي ﷺ قال لعائشة: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله».
إننا حين نحب فإننا نتخيل فيمن نحب كل خصلة حميدة، وننظر اليه نظرة تقترب من الخيال، ننظر إليه وكأنه ملك يصيب ولا يخطئ، وكذلك حين نكره، فإننا نتخيل فيمن نكره كل خصلة ذميمة، وننظر اليه نظرة تقترب من الوبال، ننظر إليه وكأنه شيطان رجيم، لا خير فيه ولا شر إلا منه.
كثيرا ما يغيب عنا أن الناس مهما علا كعبهم في عالم الخير، ومهنا سفلوا في دركات الباطل، بشر كالبشر، تتجلى فيهم معاني الخير والشر، والصواب والخطأ، لهم ندوب وشقوق، ولهم إيجابيات وسلبيات، تماما كما هو الحال بالنسبة للقمر الشاهق المضيء، الذي نتغنى بمنظره، ونقع وتأسرنا صوره، وننسى أننا حين نحبه، فإننا نحب فيه جانبه المضيء، ولا ننتبه أن خلف هذا الوجه القمري المنير وجها آخر مظلما ضربنا الصفح عنه حينما أحببناه، وتغافلنا عن حقيقته حينما واليناه، وصدق الشاعر حينما قال:
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ |○| وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا
وبهذه المعاني يمكننا أن نحقق الانصهار الكامل، والتناغم الواعي الذي يكمل فيه أحدنا الآخر، من دون إلغاء ولا تجاوز.
إننا بحاجة لكي نحب الآخر بشكل واضح وصحيح، نحب الآخر كيف هو، وكما هو، ننظر إلى نوره، ونقبل على كسوفه، فالمحب حقيقة من يعظم الحسنة وينشرها، ويعذر الزلة ويسترها، وبهذا يتحقق التناغم في العلاقات بين المتحابين، يقول ابن عطاء الله السكندري: (ما صحبك إلا من صحبك وهو بعيبك عليم .. خيرُ من تصحب، من يطلبك لا لشيء يعود منك إليه).
لا بد من يوم يطلع فيه محبونا على عيوبنا، ولا بد من يوم نطلع فيه على عيوبهم، والمطلع على عيوب الآخرين عليه أن يتحلى بالرحمة والوعي، ومن اطلع على أسرار الناس وعيوبهم ولم يتعلق بالرحمة كان اطلاعه فتنة عليه وسببا في جر الوبال إليه
إننا في تدافعنا الطبيعي واحتكاكنا اليومي نعكس في الواقع حقائقنا في غيرنا، وتتفتق معادن الآخرين فينا، وهذا هو الانصهار الصعب بالمعنى الحقيقي للانصهار، كما هو معلوم في عالم الكيمياء، حيث تحوّل حياتنا عبر الاحتكاك والتدافع رصاص عزلتنا وفوضويتنا ليصبح معدنا نفيسا في تضامننا ووحدتنا، ويصبح لحياتنا معنى ولوجودنا مقصد.
لا بد إذن من أن نقبل على الناس بحب فيه اعتدال، نقبل منهم عدم الارتياح، ونتجاوز عن الاختلاف، نقبل منهم حين يعتذرون، ونسمع لهم بحضور حين يخاصمون، ونلتمس لهم ألف عذر، ونُقبل على من جاءنا من بعيد ليتحدث معنا بشجاعة وصراحة.
وختاما فالخير في الناس، مهما استقاموا، طبيعة، والشر فيهم مهنا عاشوا وديعة، والعاقل يستر الطبيعة ويقبل الوديعة، يقول جبران خليل جبران:
الخيرُ في النّاس مصنوعٌ إذا جُبروا |○| والشرُّ في الناسِ لا يَفنى وإن قُبروا
وختاما أن الرفق في الأمر كله هو الاعتدال، والأفراط في كل شيء أمر مقيت، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الرّفقَ لا يكونُ في شَيءٍ إلاّ زانَهُ، ولا يُنزعُ مِنْ شَيْءٍ إلا شانَهُ»، أخرجه مسلم.
-------------------------------------
[1] رواه الترمذي والدار قطني، والحديث المذكور قد ضعفه كثير من أهل العلم، وبعضهم صححه، وبعضهم حسنه وبعضهم صححه موقوفاً على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال العجلوني: (وقد رمز السيوطي لحسنه، ولعله لاعتضاده، وإلا فقد تكلموا في كثير من رجاله.