الحِكم العطائية: 14

الكون هو ما خلق الله مما كونته القدرة وأظهرته للعيان، وهو كله من حيث كونيته ، وظهور حسه كله ظلمة وإنما أناره تجلي الحق به وظهوره فيه، فمن نظر إلى الظاهر الكون رآه ظلمة ظلمانيّة، ومن نفد إلى نظر إلى باطنه رآى معالم فدرة الملك الحق نورا ملكوتيّا، قال اللّه تعالى : [اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ].
والحكمة تدعو إلى النظر إلى شمس المعاني وعدم الوقوف مع ظاهر حس المباني، كما أشار الششتري بقوله:
لا تنظر إلى الأواني، وخض بحر المعاني، لعلك تراني
◇ ‏فاللهم نوّرْ قلوبَنا بالإيمان، وزيّنْ عقولنا بالحكمة، وعافِ أبدانَنا بالصحةِ والعافيةِ، واشْمَلْنا بعفوكَ ورحمتِكَ ولطْفِك، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
◇ *En* 14.The Cosmos is all darkness. It is illumined only by the manifestation of God in it.
Whoever sees the Cosmos and does not contemplate Him in it or by it or before it or after it is in need of light
and is veiled from the sun of gnosis by the clouds of created things.
◇ *Fr*. L’univers tout entier est ténèbres ; seule l’éclaire l’apparition en lui de Dieu-Réalité.
Qui regarde l’univers et ne voit Dieu-Réalité ni en lui ni près de lui, ni avant lui, ni après lui, est dépourvu de toute lumière : le soleil de la Connaissance est voilé pour lui par les nuages (que sont à ses yeux) les traces (de Pacte créateur).

الحِكمة: 13

تقريب المعاني: الحياة بغير إيمان قصة بلا معنى، وصورة بغير روح، حكاية مملوءة بالمآسي، وسرد يثقل الأقدام والنواصي.

وإذا كان العلم والتجربة يدلان على كنه الحقائق الكلية، فإن الإيمان يكسب عين الحقائق وأرواحها، ويحيط بها كما تحيط الهالة بالأقمار، فدولة الإيمان في حياة السائرين الى الله نور وراحة، وهي بالنسبة لهم الشمس التي تضيء القلوب، وتهدي الأرواح لتتضح الرؤية، وتنجلي الأسرار ويتحقق سر الإبصار.
وإذا لم تكن مرأة القلب مصقولة، غير منطبعة بالنقائص وعوائق المكونات لم تكن قادرة على أن تعكس الأنوار، وتترجم الأسرار، قال جلال الدّين الرومي: “أتعلم لماذا لم تكن مرآتك غمازة، لأن الصدأ لم يزل عن وجهها، فامض وأزل عن وجهها الصدأ، وبعد ذلك أدرك ذلك النور” .
◇ فاللهم طهر قلوبنا من كل وصف يُباعدنا عن مشاهدتِك ومحبتِك، وأدمْ علينا عيْنَ عنايتك، واستُرنا بستركَ الجميلِ في الدنيا والآخرة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

Fr. Comment un cœur pourrait-il être illuminé tant que les formes des choses existantes se reflètent dans son miroir ?
– Où comment pourrait-il entreprendre son voyage vers Dieu, s’il est entravé par la concupiscence ?
– Où comment désirerait-il ardemment entrer dans la présence de Dieu sans s’être purifié de la souillure de son insouciance ?

الحِكمة: 12

تقريب المعاني:
إنّ هذا الحكمة تؤكد على أهمية حفظ القلب باعتباره أساس كل بناء ذاتي وتغيير نحو الصلاح، كما جاء في الحديث الشريف: «ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
وهذه الحكمة تؤكد على نفع العزلة في صلاح أحوال القلب، وتساعده على الاعتبار و التفكر في تنمية الفكر وتطوير الذات.
ولا بد من التأكيد هنا على أن المطلوب في هذا المجال التربوي عزلة جزئية لا العزلة الكلية الدائمة، فالأصل هو المخالطة للناس والمساهمة في التوجيه والتفاعل معهم والصبر على آذاهم ومخالفتهم، فالعزلة وسيلة آنية وليست غاية ومنهجاً مستمرا، يبتعد به المرء عن واجب خدمة المجتمع، ويقصي نفسه عن الحياة وواجب البناء فيها والتغيير.
رحم الله صاحب شفاء الرقم إذ يقول في هذا المعنى:
بعُزلةِ الـمرْءِ يسْلمُ مِنْ مَعاطِبهِ
ويبرأ القلبُ من الأمراضِ والعللْ
بصافي الفكرِ يُدْركُ مِن مآربـِه
ويبلغ السُّؤلَ والمطْلوبَ والأمـلْ
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
◇ Fr. Rien n’est plus profitable au cœur que l’isolement ; par lui, il entre dans l’arène de la méditation.
◇En. Nothing benefits the heart more than a spiritual retreat wherein it enters the domain of meditation (maydān fikra).

الحِكمة: 11

◇ هذه الحكمة أفضل نصيحة وأعظم هدية لمن يريدون الظهور قبل أوانه، ولمن يتوهمون أن قليلا من العلم والمعرفة كاف في الترشيح للقيادة والإمامة في الدنيا والدين، فإن درجة الإمامة فى الحياة تتطلب صبر السنين، وتغضين الجبين.
فليدفن العاقل نفسه أولا فى تربة التواضع، وليركن إلى زاوية عزلة وليتسلح بسلاح تؤدة الصمت، كالشجرة كلما كان أصلها غائرا فى خفي التراب، كان نتاجها في ظاهر الأرض أحسن منظرا ورِئيا.
◇ فاللهم ارزقنا التقوى فإنها أفضل المراتب، وارزقنا التواضع فإنه أحسن الصفات، وارزقنا الإحسان فإنه أجمل الأعمال، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
◇ 11. Enfouis ton existence sous le sol d’une vie obscure ; le germe issu d’une graine non enfouie ne parvient pas à L produire des fruits.

الحِكمة :10

الحِكم العطائية: 10
حكمة 10: “الأَعْمالُ صُوَرٌ قَائَمةٌ، وَأَرْواحُها وُجودُ سِرِّ الإِخْلاصِ فِيها”.
◇10. Les œuvres sont des silhouettes dressées dont l’âme est la pureté d’intention.
إخلاص العمل لله تعالى سر من أسرار الله يودعه قلب من يحب من عباده، فهو روح الأعمال وأساسها، والعمل بغيره جسد بغير روح، وأساس من غير بنيان، وشيء بغير معنى.
◇ اللهمَّ لا تحرمني وأنا أدعوك، ولا تخيبني وأنا أرجوك، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحِكمة :9

الحِكم العطائية: 9
حكمة 9: “تَنَوَّعَتْ أَجْناسُ الأَعْمالِ لِتَنَوُّعِ وارِداتِ الأَحْوالِ”.
◇9. Actions differ because the inspirations of the states of being differ.
*تقريب المعاني:*
لمّا كانت الواردات النفسية والروحية التي ترد على القلوب متنوعة ومختلفة، كانت أجناس الأعمال التي تقتضيها هذه الواردات أيضا متنوعة، فأعمال الجوارح الحسية أبدا تبعٌ وانعكاس طبيعي لأعمال القلوب النفسية، ولذلك قالوا إن حسن الأعمال نتائج طبيعية لحسن الأحوال.
◇ اللهُمَّ طهِّرْ قلوبَنا من كلِّ وصفٍ يُباعدُنا عن مشاهدتكَ ومحبّتكَ، وأمِتْنا على السّنةِ والجماعَةِ، يا ذا الجلالِ والإكرام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحكمة: 8

تقريب المعاني:
معرفة الله تعالى وتوحيده هما غاية المطالب ونهاية الآمال والمآرب، فإذا وفق الله عبده وواجهه ببعض أسبابها، وفتح له باب التعرف له منها، وأوجد له السكينة والطمأنينة فيها، فذلك من النعم الجزيلة؛ فينبغي للعبد ألاّ يهتم بما يفوته لسبب ذلك من أعمال البر.
فقلة العبادة مع أداء الواجبات للمجتبَين لا تضر، وكثرة الطاعات مع أداء الواجبات للمحجوب عن الله تعالى لا تفيد، ولا بد من أداء الواجبات، وذرة من أعمال القلوب مِثْل الصبر والرضى والتوكل، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
وفي هذا المعنى قيل:
من بعد ما يفتَحِ المولى تـعــرّفَه
فلا تـبـال إذا أقللتَ فـي الـــعــمــل
فـــما مِن الله تظهَر فــيـه منتُه
وما مِن العبدِ منسوبٌ إلى الخطَل
فكلُّ ما منهُ محفوظٌ بــلا ريـبٍ
وكــل مــا مـنكََ لا ينفكّ عن خلل
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
◇Fr. Si Dieu t’ouvre un accès à la connaissance, muni de cette faveur, ne t’inquiète pas de la diminution de tes bonnes œuvres. En effet, Dieu ne t’a fait cette Ouverture que parce qu’Il veut se faire connaître à toi. Ne sais-tu pas que cette voie vers la Connaissance est un don qu’Il t’accorde ; quant à tes bonnes œuvres, ce sont des présents que tu Lui fais. Quel rapport y a t-il entre tes présents et le don qu’Il t’accorde ?

الحكمة: 7

تقريب المعاني:
الموعد من الله صادق ووعده تعالى حق، فلا ينبغي أن يشك العبد ويتردد في وعد سيده ومولاه، وليطمئن إلى وعده، ويعلم يقينا أنه واقع ليس له مانع، قال الله جل ذكره: ﴿ألا إن نصر الله قريب﴾ وما أحسن من قال في هذا المعنى:
فلا تشك فـي الـموعودِ إنّ له ○○ وقتا متى حانَ جاءَ بالفتحِ والفرجِ
لا تخمدنّ لنـورِ الـسّرِّ واعْـزِلْه ○○ منْ همكَ أو شكك المقـرون بالحرجِ
کمْ ما تضيق أمر العُسرِ كانَ له ○○ مِن الفرجِ مخرجٌ والضيقُ منْفرجِ
فاللهُمَّ اقسم لنا من الإيمان بوعدك واليقين بموعودك ما تهون به علينا مصائب الدنيا.

◇An. If what was promised does not occur, even though the time for its occurrence had been fixed,
then that must not make you doubt the promise.
Otherwise your intellect will be obscured and the light of your innermost heart extinguished.
◇ Fr. Que ne te fasse pas douter de la promesse divine le fait qu’elle ne s’accomplit pas, même si le terme en est arrivé, afin que ce doute ne soit pas la causè d’une brèche dans ta clairvoyance et d’une extinction de la Lumière sise dans le repli secret de ton cœur.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حِكم ابن عطاء الله: تعريف وتنويه

قيَّض الله تعالى من يجدد الحكمة في روح الأمة الإنسانية، وينشر معالم الخير فيها، ويعمل على بناء معاني الخشية والفهم الصحيح فيها، ويجدد لها أمر الأخلاق والدين فيها، وعلى رأس أولئك المجددين الأنبياءُ والمرسلون، ومن سار على دربهم من الصالحين والمصلحين، والمربين الموجهين، في كل وقت وحين، وإن من أجل هؤلاء نجد الإمام ابن عطاء الله السكندري، الذي ألف نخبة من الحِكَم والوصايا والدرر العطايا.
وحِكَم ابن عطاء الله هي عصارة تجربة روحية، وسياحة فكرية في عالم القرآن الكريم والسنة النبوية، وتجارب السلف الصالح، وتتعلق بمعلمين كبيرين من معالم الدين وهما العقيدة والأخلاق، وهما معلمان يشترك فيهما كل الرسالات والأنبياء، وتجمع بين مختلف الملل والنحل، بخلاف الشرائع الفقهية، فإن لكل أمة فروعها وشرائعها، قال تعالى: ” لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا” [المائدة: 48]
وقد جمع ابنُ عطاء الله تلك الحِكَم لتكون زاداً يعين على فهم روح القرآن الكريم، واستبصار مبانيه ومعانيه، وأبدع رحمه الله التصنيف في أحوال ذلك، وجمع فيها بين العبارة المعبرة، والإشارة المشعرة، بين العلم الذي يبصِّرُ المؤمن ويهديه، والأنفاس التي تدفعه وترقيه، تبني الروح والوجدان، وتورث الحركة إلى المعالي والعرفان، وتعين على السير في مفازات الميدان، يعرف ذلك من نظر وتأمل فيها، واعتنى بمبانيها، واجتهد في الوقوف على معانيها.
1. ولادة ابن عطاء الله ونشأته:
ولد الإمام ابن عطاء الله شيخ الإسلام تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي بالقاهرة عام (658هـ) وتعلم منذ نعومة أظافره العلومَ الدينيةَ والشرعيةَ واللغويةَ، وتميزت رحلته العلمية بميزة تتمثل في الجمع بين علوم الشريعة وفقه التربية والسلوك، حيث أخذ عن الإمام أبي العبس المرسي والذي أخذ بدوره عن الإمام أبي الحسن الشاذلي عن الإمامين مغربيين كبيرين في علم التصوف السني والسلوك والتربية وأعني بذلك الإمام عبد السلام بن مشيش دفين جبل العلم بتطوان المغربية، والإمام محمد بن حرازم دفين فاس بالمغرب، وبهذا السند المتصل إلى إمام المدرسة العرفانية الشيخ أبي القاسم الجنيد استطاع الإمام ابن عطاء أن يكون أَحد فقهاء عصره الجامعين بين فقه القالب والقالب، والروح والجسد، والشريعة والحقيقة، والمباني والمعاني.
وبعد عمر قضاه في خدمة العلم والشريعة والسلوك، توفي ابن عطاء الله السكندري تاركا ورائه العديد من الكتب والحكم عام تسع وسبعمائة (709 هـ) في القاهرة.
2. مؤلفات ابن عطاء الله:
ألف ابن عطاء الله العديد من المؤلفات، منها كتاب ( التنوير في إسقاط التدبير )، وكتاب ( لطائف المنن )، وكتاب ( مفتاح الفلاح ) وكتاب ( تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس ) وكتاب ( الحكم العطائية )، وهو موضوع مؤلفنا وحديثنا، ويمكن اعتباره أشهر ما وصلنا من مؤلفات ابن عطاء الله ومصنفاته، وقد كتب الله له القبول والانتشار، حتى ترجم إلى العديد من اللغات العالمية، ولا يزال يُدرس في بعض المعاهد والمراكز شرقا وغربا.
وحكم ابن عطاء الله عبارة عن مجموعة من الحكم والأقوال البليغة، تبلغ 264 حكمة، تعكس خبرة علمية، نعتبرها عصارة فهم دقيق لمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأحوال السلف وما ذهب إليه جماعة المسلمين في العقيدة والدين والتربية والسلوك.
وقد تصدى العلماء قديما وحديثا لحكم ابن عطاء الله بالشرح والتعليق والبيان، وألفوا في ذلك مؤلفات عديدة، ومن بينها:
1- (غيث المواهب العلية بشرح الحكم العطائية) للإمام أبي عبد الله محمد بن إبراهيم النفري الحميري الرندي الأندلسي ، المعروف بابن عَباَّد النفَّري (733 -792 هـ)
2- (شرح حكم ابن عطاء الله) للإمام أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البُرنسي زروق الإمام أحمد زرّوق (846 – 899هـ)، وشرحه هذا من أحسن الشروح، وله كذلك شروح أخرى على الحكم ذكرها في مقدمة كتابه أنها بلغت 16 شرحا
3- (شقائق الأكم بدقائق الحكم) للإمام الفقيه المؤرخ رضى الدين محمد بن إبراهيم بن يوسف الحنفي الحلبي القادري التادفي المعروف بابن الحنبلي 908 – 971هـ
4- (إيقاظ الهمم في شرح الحكم) للإمام العارف الشهير شيخ الإسلام أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني الأنجري 1160– 1224هـ، راعى في شرحه التوسط بين المعنى وتحقيق المبنى
5- (الملتزم الجامع لمعاني الحكم) للإمام محمد الطيب بن عبد المجيد بن عبد السلام بن كيران المالكي الفاسي 1172 – 1227هـ، منه نسخ خطية في مكتبات فاس والرباط،
6- (تلخيص الحِكَم ) للشيخ نور الدين بن عبد الجبار بن نوري بن أبي بكر بن زين العابدين ابن شمدين الحسيني البريفكاني النقشبندي 1207 – 1268هـ، وهو شرح منظوم لحكم ابن عطاء الله، نظم في كل حكمة نظما لطيفا ميسرا للحفظ،
7- (الغيث المنسجم في شرح الحكم) للإمام أبي بكر بن محمد بن عبد الله البناني الرباطي ت 1284هـ،
8- (شرح الحكم العطائية ) للشيخ عبد المجيد الشرنوبي المالكي.
9- (المنهج الأتم في تبويب الحكم) للإمام المحدث علاء الدين علي بن حسام الدين عبد الملك بن قاضي خان القادري الشاذلي المعروف بالمتقي الهندي، بدأه بباب العلم، ثم باب التوبة، ثم باب الإخلاص في العمل، باب في الصلاة، باب العزلة والخمول، باب في رعاية الوقت واغتنامه، باب الذكر، باب الفكرة، باب الزهد وفضيلته… وهكذا. (30) باباً.. ثم المناجاة.
10- (الحكم العطائية شرح وتحليل) للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وغيرها من المؤلفات.
وقد كنا اشتغلنا على حكم ابن عطاء الله مرارا عديدة في خطبنا ومواعظنا وبرامجنا الإعلامية ورأينا فيها تأثيرا عجيبا على النفوس، وإقبالا منقطع النظير من لدن الناس، وها نحن الآن نستجمع القوة، ونتوكل على الله، ونجمع تلك الجهود في ملخص واحد، نرجو الله أن يكون نفعه عاما، وأن يجعله رحمة لكاتبه وقارئه، وبركة في البلاد وعلى العباد، وأن يرزقه القبول، وينفع به، والله من وراء القصد، والقادر عليه.
ونحن، مع ذلك، على يقين أننا لا نروم استيفاء جميع ما اشتملت عليه هذه الحكم العطائية، وما تضمنته من المعاني والمفاهيم، فهي كما قال بعض شراحها منطوية على أسرار مصونة، وجواهر حكم مكنونة، لا يكشفها إلا صاحبها، ولا تتبين حقائقها إلا من خلاله، ونحن في هذه الحلقات التي نوردها، والمناحي التي نعتمدها، غير مدَّعين شرحا لكلام ابن عطاء، ولا أن ما سنذكره هو حقيقة مذهبه، ولكننا نجتهد في تقريب المعاني الكبرى والمفاهيم العظمى بأيسر عبارة، وأقرب إشارة، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، فإن وافقنا فيه حقيقة الأمر، كان ذلك من النعم التي لا نحصي لها شكرًا، وإن خالفنا ذلك، أحلناه على نقصنا وجهلنا.

الحكمة في المنظور الإسلامي

قد قال تعالى: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” البقرة 269، قال أبو جعفر الطبري: يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيرا كثيرا، وقال جمهور المفسرين: الحكمة فهم القرآن والفقه به، وقيل هي النبوة، وقيل الخشية، إلى غير ذلك من الأقوال، ولا تعارض بين ذلك كله، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك ، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره ، فهما خاشيا لله : فقيها عالما، وكانت النبوة من أقسامه؛ لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور، والنبوة بعض معاني الحكمة، ومعنى الآية: إن الله يؤتي الصواب في القول والفعل لمن يشاء، ومن أحب من خلقه، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا، وقد ورد في القرآن الكريم، أن الحكمة عطية ربانية ومحة إلهية، يوتيها الله لمن شاء من عباده، من الأنبياء والصالحين.

والحكمة في اللغة: اللجام الذي يوضع في فم الفرس، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يمنعه الفرس من الجماح والجري الشَّديد، ويذلِّل الدَّابَّة لراكبها[1]، ومن هذا المعنى اشتقت كلمة “الحِكْمَة”، وهي تعني معرفة حقائق الأمور، فتمنع صاحبها من الوقوع في الخطإ والباطل، قال أبو إسماعيل الهروي: (الحِكْمَة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه[2]، وقال الإمام النَّووي: (الحِكْمَة، عبارة عن العلم المتَّصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ، والعمل به، والصدِّ عن اتِّباع الهوى والباطل، والحَكِيم من له ذلك)[3] ، كما تطلق “الحكمة” كذلك على لون من التعبير هو خلاصة نظر عميق إلى الأشياء إلى الحياة، وما يضطرب فيها من أفكار، تصدر عن ذوي التجارب الغنية، والعقول الراجحة والأفكار النيرة، وقائلها يوصف حكيما، لأنه ينظر إلى الأشياء بعين الشمولية والتحليل الدقيق، ثم يصدر في شأنها حكما ينتشر لفظه على ألسنة الناس، ويبقى مذكورا يعلق بالأذهان والنفوس، يجدون فيه الهداية والتوجيه إلى ما يعينهم وينفعهم في الحال والمآل.
وتمتاز “الحكمة” اللفظية بالإيجاز وسبك الصياغة، وقوة التعبير، ويلزم منها في الأصل أن تكونَ صحيح المنحى، وهذا هو الفرق بينها وبين المثل، فالمثل قد يَشتهر ويكون معناه غير مسلم به، بخلاف الحكمة، فإنها وليدةُ فكر ناضج، وعقل متميز، يضع الكلمة في موضعها، والعبارة في سياقها، ومن أمثلة الحكم قوله:”إنك لا تجني من الشوك العنب”، وقولهم: “إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا”، وقولهم: “مصائب قوم عند قوم فوائد”، وفي الدارج المغربي قولهم: “كون سبع وكلني” ، وقولهم: “اللي بغا الزين يصبر على ثقيب الوذنين”.

الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية:

• الحكمة في القرآن الكريم:
وردت كلمة “الحكمة” معرفة بـ“أل“ أو نكرة في القرآن الكريم 20 مرة؛ أولها قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة البقرة: 129]، ومن ذلك قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ) [سورة البقرة: 269]، وآخرها قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سورة الجمعة: 2].
وجاءت “الحكمة” مقترنة بكلمة “كتاب” في 10 مواضع في آيات شتّى؛ منها قوله سبحانه: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) [النساء: 54]، ونصيب محمد ﷺ من تلك الآيات العشرين هو في 6 مرات، ولا غرو في ذلك؛ لأن هذا ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام أن يرزقهم نبياً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، وعن معنى الحكمة في القرآن الكريم يقول ابن عاشور: “فالحكمة هي المعرفة المحكمة، أي الصائبة المجردة عن الخطأ، فلا تطلق الحكمة إلا على المعرفة الخالصة عن شوائب الأخطاء وبقايا الجهل في تعليم الناس وفي تهذيبهم. ولذلك، عرّفوا الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية، بحيث لا تلتبس على صاحبها الحقائق المتشابهة بعضها ببعض ولا تخطئ في العلل والأسباب، وهي اسمٌ جامعٌ لكل كلامٍ أو علمٍ يراعى فيه إصلاح حال الناس واعتقادهم إصلاحاً مستمراً لا يتغير”.
• الحكمة في السنة النبوية:
قد وردت كلمة ”حكمة“ في الحديث النبوي، ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسُلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)”[4]، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: “ضمّني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: (اللَّهُمَّ عَلِّمْه الحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ)”[5]، وكذلك روي عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، أن رسول الله قال: (إن من الشعر حكمة)”[6]، قال ابن حجر العسقلاني: “قوله: (إن من الشعر حكمة) قولا صادقا مطابقا للحق. وقيل: أصل الحكمة المنع، فالمعنى إن من الشعر كلاما نافعا يمنع من السفه”[7].
فهذه جملة الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها وهناك أحاديث غيرها ترد على ألسنة الناس لكنها ضعيفة، وأشهرها ما روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ : (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها)، قال الترمذي، وهذا حَدِيثٌ وإن كان ضعيفا عند المحدثين، وفي سنده مقال، فإن معناه صحيح، وتقويه الأحاديث الصحيحة السابقة، وتشهد له نصوص الإسلام وروحه ومقاصده، وذلك أن المؤمن لا يزال طالبا للحق حريصا عليه، فكل من قال بالصواب أو تكلم بالحق قبلنا قوله وإن كان خصما أو عدوا، وقد قال تعالى:{ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا} المائدة:8، والعاقل يأخذ الحكمة من أي وعاء خرجت وعلى أي لسان ظهرت.

وفي الختام نقول إن حاجتنا اليوم ماسة لإحياء معالم علم التربية على التصوف النافع، والسلوك الصالح، المبني على الدليل، والمؤسس على الوسطية والاعتدال، مرتكزا ومجالا، وعلى عقيدة السلف الواضحة الناصعة.
وإن حاجة المشتغلين بفقه الفروع اليوم محتمة للانفتاح على مبادئ التربية والسلوك والمعارف الصوفية السنية النقية، فذلك أدعى أن يكون لقولهم أثر، ولجهدهم نفع، كما أن المشتغلين بالتصوف والمعارف الروحية مطالبون اليوم أيضا بمد جسور الحوار والانفتاح على الفقه والعلم الشرعي، فهما وتنزيلا، ليكون السير على بصيرة، والتربية على علم، ولا تعارض بين المنهجين، إلا في أذهان المتعصبين أشباه العلماء في الفريقين، فالحق لا يضاد الحق، بل يشهد له، كما جاء عن ابن رشد.
روي عن الإمام مالك رحمه الله تعالى: «من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن جمع بينهما فقد تحقق »، ويقول أبي القاسم الجنيد رحمه الله: “طريقتنا هذه مربوطة بالكتاب والسنة”، وقال أيضا: ”الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام“ وقال: «من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة».

ــــــــــ هوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. القاموس المحيط للفيروز أبادي: ص1415، لسان العرب لابن منظور 12/143، مختار الصحاح للرازي: ص 62 ، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 1/119، المصباح المنير للفيومي: 1/145، تاج العروس للزبيدي: 8/253، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/288،

2. منازل السائرين للهروي: 78

3. شرح النووي على مسلم:2/33

4. رواه البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، رقم الحديث: 73

5. رواه ابن ماجة، باب فضل ابن عباس، رقم: 166.

6. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، دار الريان للتراث، سنة النشر: 1407ه-1986م، ح:1، ص: 554.

7. المصدر نفسه، ص: 556.