تنديد واسع بسماح السويد بحرق المصحف الشريف

توالت ردود الفعل العربية والإسلامية والأجنبية المنددة بسماح السلطات السويدية، اليوم السبت، لزعيم حزب « الخط المتشدد » الدانماركي اليميني المتطرف راسموس بالودان بإحراق نسخة من المصحف الشريف أمام السفارة التركية في ستوكهولم.

وأدانت منظمة التعاون الإسلامي « بأشد العبارات حرق نسخة من القرآن الكريم في السويد« ، واعتبرت ذلك « عملا استفزازيا يستهدف المسلمين ويهين قيمهم المقدسة« ، وقال أمين عام منظمة التعاون الإسلامي حسين إبراهيم طه: « إن هذا الفعل يشكل مثالا آخر على المستوى المقلق الذي وصلت إليه الإسلاموفوبيا، داعيا السلطات السويدية إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة ضد مرتكبي جريمة الكراهية هذه« .

عدوان صادر عن الجهل:

من جهته، عبّر المجلس العلمي الأعلى عن إدانة المملكة المغربية الشديدة للحادثة، مؤكدا على موقف الرباط الثابت الداعي إلى أهمية نشر قيم الحوار والتسامح والتعايش، ونبذ الكراهية والتطرف، كما استنكر المجلس العلمي الأعلى، الذي يترأسه أمير المؤمنين الملك محمد السادس، جريمة إحراق المصحف الشريف بستوكهولم يوم السبت الأخير، وفي ما يلي نص بلاغ المجلس العلمي الأعلى الصادر اليوم الأحد بهذا الخصوص:

إن المجلس العلمي الأعلى الذي يترأسه أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس، أعزه الله، وبعد أن علم بما ارتكبته أيد متطرفة في عاصمة السويد من القيام بإحراق المصحف الشريف، يعلن ما يلي:

استنكار هذه الجريمة بأشد عبارات الإدانة؛ واعتبار القيام بإحراق المصحف الشريف عدوانا صادرا عن الجهل بالقيم الإنسانية المثلى التي يدعو إليها القرآن الكريم؛ واستنكار التواطؤ الذي قد يكون صاحب هذا الأمر بأي شكل من الأشكال؛ والاستغراب الشديد لأن يكون هذا الفعل الشنيع قد وقع في بلد يدعو إلى مبادئ السلام والتعايش في العالم؛ واعتبار هذه الجريمة مسيئة إلى المسلمين ومستفزة لمشاعرهم؛ واعتبار هذه الجريمة غير قابلة لأي تبرير مهما كان.

وعلى أساس كل هذه الاعتبارات، فإن المجلس العلمي الأعلى يتوقع القيام بالإجراءات التي تبين لعقلاء الناس في كل مكان أن هذا الفعل الشاذ إنما هو صادر عن الجهالة التي ينبغي أن يتعاون الحكماء على التقليل من آثارها المدمرة.

إعادة طرح أكبر مؤلف مغربي في المذهب المالكي

في 71 مجلدا أصدرت الرابطة المحمدية للعلماء أوسع شرح لـ”مختصر خليل”، الذي يعدّ أكبر كتاب ألّف في المذهب المالكي، وهو للقاضي الفقيه أبي علي الحسن بن رحّال المعداني (التدلاوي ثم الفاسي)، الذي توفي سنة 1140 هجرية، وعاش بين القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، وهو دفين مدينة مكناس.

ويعد “فَتْحُ الفَتّاحِ على مختصر الشيخ خليل”، وفق الرابطة المحمدية للعلماء، “خزانة موسوعية في توثيق الأعراف والعوائد التي تنبني عليها الأحكام الشرعية، وما اعتراها من أحوال وتغيرات، ترتب عليها تغير الفتاوى والأقضية”.

ويتضمن هذا الكتاب الذي طبع بدار ابن حزم بلبنان “مسحا شاملا لمصادر المذهب المالكي”، واقتصر فيه مؤلفه على “أبواب المعاملات” دون “أبواب العبادات”، وشرح مسائله موردا ما اتصل بها من فتاوى النوازل، وأجوبة مسائل الأحكام، واجتهادات قضائية، وما جرى به العمل عند القضاة والموثّقين والنوازليين عبر الأزمنة والبلدان، خاصة بالمغرب والأندلس.

هذا العمل الذي شارك في تحقيقه جماعة من الأساتذة، تحت إشراف مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي التابع للرابطة المحمدية للعلماء، أداره محمد العلمي، رئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي والأستاذ بكلية الحقوق بسلا.

وقال مدير العمل، في تصريح لهسبريس، إن “فتح الفتاح” يعد “أكبر شرح للمصدر المعتمد في الفتوى في المذهب المالكي، وهو مختصر الشيخ خليل المتوفى سنة 779هـ”؛ فـ”من أصل حوالي 420 شرحا وحاشية ألفها المالكية على هذا المختصر، اعتبر “فتح الفتاح” أكبر شرح من بينها، خصوصا أنه اقتصر فيه على المعاملات، حيث بدأ من باب النكاح إلى باب الفرائض، ولم يتعرض لأبواب العبادات”.

وأضاف “لقد ألف “فتح الفتاح” في عهد السلطان مولاي إسماعيل بن الشريف، ولم يؤلف بعده ولا قبله بالمغرب أكبر منه، فهو أضخم مجهود علمي في فقه المعاملات في عهد الدولة العلوية الشريفة. بل أكاد أجزم بأنه من أكبر كتب الفقه في المذاهب الأربعة، حيث لم نجد في مصادرها ما بلغ هذا الحجم في فقه المعاملات فقط.”

وأحاط ابن رحال في هذا الكتاب، وفق المصدر نفسه، بـ”الاجتهادات الفقهية والقضائية والتأويلية لأزيد من ثمانية قرون من المذهب المالكي، حتى قالوا عنه: كاد يحتوي على جميع نصوص المذهب. كما اشتمل على روح موسوعية وعميقة معا في الاستدلال والتعليل والتوجيه للمسائل الفقهية، والإفادة من المذاهب المختلفة ومناقشاتها، والاختيار والترجيح بينها.”

وتابع رئيس مركز البحوث في الفقه المالكي قائلا: “وحيث إن الفقه الإسلامي يتطور بالنوازل والأقضية، فقد دعم المؤلف شرح المسائل الفقهية بإيراد ما يتصل بها من فتاوى النوازل، وأجوبة مسائل الأحكام، واجتهادات قضائية، وما جرى به العمل عند القضاة والموثقين والنوازليين عبر الأزمنة والبلدان، خصوصا بالمغرب والأندلس.”

هذا الكتاب يمثل أيضا “خزانة موسوعية في توثيق الأعراف والعوائد التي تنبني عليها الأحكام الشرعية، وما اعتراها من أحوال وتغيرات، أثرت على تغير الفتاوى والأقضية، وتطور الرؤية الفقهية ومواكبتها للمستجدات”، وهو ما يكشف عن “جانب من أسلوب علماء المغرب وإسهامهم في عصر النهضة”.

وحول راهنية الكتاب، ذكر المدير المشرف على العمل أن “فتح الفتاح ينتمي إلى دائرة المصادر الآمنة والمسؤولة للثقافة الدينية والفقه الإسلامي، في زمن حصل تشويش عام في مصادر المعرفة الدينية؛ جراء النزعات الفوضوية والتفكيكية التي تحاصر الشباب وتدفعهم إلى أوضاع مجهولة، وبعيدة عن الثقافة التي سهر العلماء وأولو الأمر على سيادتها في المجتمعات الإسلامية طيلة التاريخ.”

وأضاف “هذا الكتاب وإن كان كتاب تخصص، فإنه مصدر مهم جدا لمن يتصدى للتوجيه الديني والإفتاء في المعاملات، حيث يمنحه معرفة فقهية صحيحة، ويمكنه من كافة الاجتهادات والأنظار الفقهية المسؤولة، التي كانت أساس التساكن الاجتماعي وقوام الأمن الروحي والمشروعية الدينية في آن واحد.”

لهذه الأسباب، يقول العلمي إن تحقيق هذا العمل بدأ “في مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي التابع للرابطة المحمدية للعلماء، بعناية كريمة وإشراف مباشر من السيد الأمين العام د أحمد عبادي، في شتاء سنة 2011م”، وهكذا “حصّلنا مجموعة من النسخ الخطية، أهمها نسخة المؤلف ابن رحال التي حبَّسها وقفا على أبنائه ثم على خزانة القرويين التي تحتفظ بها إلى الآن تحت عدد: 2012، وتقع في ستة أسفار كبار. كما حصلنا على نسخ خطية مساعدة، أهمها نسخة الخزانة الحسنية بعدد: 8650.”

وتابع قائلا: “لقد تم تحقيق الكتاب على مرحلتين: أولاهما: خصصناها لكتابة النص وتصحيحه. والثانية لتحقيق النص وتوثيقه. وانتهت المرحلة الأولى سنة 2014، ولم تنته المرحلة الثانية إلا في شتاء سنة 2019.”

ونهض بهذا العمل فريق من ثلاث مجموعات، أولاها: مجموعة الأساتذة والعلماء المحققين، وقد استقر عددهم في 41 باحثا، منهم 23 أستاذا جامعيا، منهم 12 باحثا حاصلا على الدكتوراه من منتسبي المراكز التابعة للرابطة وغيرهم، ومنهم 4 مسجلون حاليا في الدكتوراه، وبينهم فقيهان من العلماء المدرسين في التعليم العالي العتيق، وقد كان ضمن المشاركين في التحقيق ثلاث باحثات متخصصات في الفقه المالكي.

وثاني المجموعات لجنة للتحكيم والمراجعة، وهي لجنة علمية عينها الأمين العام لرابطة العلماء برئاسة عبد اللطيف الجيلاني، رئيس مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة، وعضوية محمد السرار، رئيس مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة التابع للرابطة، ومحمد العلمي، رئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي، مع مساعدة الناجي لمين، أستاذ بمؤسسة دار الحديث الحسنية، في تحقيق عدد من الأجزاء.

أما ثالث المجموعات فكان دورها “الإدارة والتنسيق”، وترأسها رئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي، وكان أعضاؤها من باحثي المركز.

وبعد نهاية العمل، يقول العلمي، “قمنا بتحرير دراسة للكتاب ومؤلفه، خصصنا لها المجلد الأول، ثم ذيلنا النص بمعجم لأهم المصطلحات والأعلام والكتب المذكورة في “فتح الفتاح”، وخصصنا المجلدين الأخيرين للفهارس الموضوعية لكل الأجزاء.”

وبعد صدور الكتاب عقب 11 سنة من البناء والتتميم، رجّح رئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي أن أول ما سيعكف عليه الباحثون هو “إعداد فهارسه العلمية، خصوصا فهرس المسائل الفقهية، الذي سييسِّر الوقوف على المحتويات لطلابها في وقت سريع”.

وفي ختام تصريحه لهسبريس، جدد رئيس المركز التابع للرابطة المحمدية للعلماء شكره لـ”السادة الأساتذة العلماء المحققين والمحكمين، الذين بذلوا جهدا عظيما لا يعلمه إلا الله ليخرج هذا العمل الذي يشرف المؤسسة ويشرف الوطن، ويقدم صورة مشرقة عن علماء المغرب وباحثيه.”

المصدر:هسبريس

معرض السيرة النبوية والحضارة الإسلامية بالإيسيسكو

بعد الافتتاح الرسمي للمعرض والمتحف الدولي للسيرة النبوية والحضارة الإسلامية بمقر منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) في الرباط، تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، وبحضور صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، ولي عهد المملكة المغربية، يفتح المعرض أبوابه للزيارة أمام الجمهور العام مجانا، اعتبارا من يوم الإثنين (28 نوفمبر 2022)، وذلك من الساعة 10.00 صباحا إلى الساعة 17.00 مساء، طوال أيام الأسبوع.

ويضم المعرض والمتحف ثلاثة مكونات رئيسية:

المكون الأول: “المعرض والمتحف الدولي للسيرة النبوية والحضارة الإسلامية”، الذي تشرف عليه رابطة العالم الإسلامي، ويتضمن عدة أقسام، أبرزها قسم النبي صلى الله عليه وسلم كأنك تراه، وقسم روائع السنة النبوية وفنون الخط العربي، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم كأنك معه، وقسم خاص بالتعريف بفضائل ومكانة آل البيت، وقسم الإصدارات والتحف والهدايا التذكارية، وقسم سينما لعرض الأفلام حول السيرة النبوية، وقسم “أعظم منبر”، ويضم نموذجا يحاكي منبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، تم تصميمه طبق الأصل وبنفس نوع الخشب، وكذلك نماذج للكعبة المشرفة ومكة المكرمة والمدينة المنورة، كما كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

والمكون الثاني: “بانوراما الحجرة النبوية الشريفة في العصر الأول”، لأول مرة في التاريخ بتقنيات ثلاثية الأبعاد وتقنيات الواقع الافتراضي، والتي تستند على مواد علمية مؤصلة وموسوعات محققة، وتمثل دعوة علمية عملية روحية إيمانية للدخول إلى أعماق الحياة النبوية والمسيرة المحمدية من داخل أعظم بيت لبشر، وأفضل حجرة وأجمل سكن لزوجين.

فيما المكون الثالث هو: “معرض صلة المغاربة بالجناب النبوي الشريف، جمال المحبة والوفاء”، الذي تشرف عليه الرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية، ويضم كنوزا تراثية مغربية، تتنوع ما بين مخطوطات تاريخية، ولوحات وعملات نادرة، ونماذج من العمارة والزخارف والنقوش المغربية، وأدوات تراثية.

فوائد المحن والابتلاءات

اقتضت حكمة الله -تعالى- أن لا يخلق شرًّا محضًا، بل أودع الله فيما يظنه العبد شرًّا خيرًا كثيرًا، والمؤمن العارف بربه يستطيع أن يغيِّر النقم إلى نعم، ويستبدل المحن بالمنح؛ لذا كان العارفون يفرحون بالبلاء كما يفرح الواحد منا بالرخاء؛ لما تنكشف مع البلاء والاقدار الحكم والأسرار، وصدق -سبحانه وتعالى- القائل: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء:19)، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتلاء الأنبياء والصالحين بالمرض والفقر، وغيرهما، ثم قال: (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ، كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ) (رواه ابن ماجه)، وقال وهب بن منبه -رحمه الله-: « إن مَن قبلكم كان إذا أصاب أحدهم بلاء عدّه رخاءً، وإذا أصابه رخاء عدّه بلاء »، وقال بعض علماء السلف: « يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظمُ من نعمته عليك فيما تُحبّ ».

ومِن أعظم فوائد المحن أنها تظهر لنا قدر النعمة، وتوقظ العبد من غفلته، وتهمل على تطوير مهاراته، وتجديد حياته، فكثيرا ما ينسى المرء نعما جزيلة عنده، بسبب زحمة الحياة والانهماك في دروبها ودياجيرها؛ وتأتي المحن لتوقظ النائم، وتقيم الغافل، قال -تعالى-: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف:168)، والمعنى: بلوناهم بالنعم والمصائب؛ ليرجعوا إلى ربهم، وينيبوا إليه، ويتوبوا عن معاصيه، قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: « ما يكره العبدُ خيرٌ له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه ».

ومِن فوائد المحن: أنها تعرِّف العبد حقيقةً الدنيا، وأنها طبعت على كدر، وأنها بين لحظة وأخرى تنقلب على صاحبها، قال -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20).

ومِن فوائد المحن: أنها تكفِّر الذنوب والخطايا، وتقرب العبد من رب العباد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) (متفق عليه)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال بعض السلف: « لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس ».

ومِن فوائد المحن: أنها تطهر القلوب وتنقي النفوس، قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب زاد المعاد: « لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة، وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا، فمِن رحمة الله -أرحم الراحمين- أن يتفقده في الأحيان بأنواع أدوية المصائب تكون حمية له مِن هذه الأدواء، وحفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان مَن يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه! فلولا أنه -سبحانه- يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء؛ لطغوا وبغوا وعتوا، والله -تعالى- إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا سقاه دواءً مِن الابتلاء والمحن على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه ».

ومِن فوائد المحن: أنها تذكر حال أهل البلاء، فالإنسان لا يعرف قيمة النعمة التي أنعم الله عليه فيها إلا إذا شاهد أهل البلاء؛ فكم أقامنا الله وأقعد غيرنا، وكم أصحنا وأمرض غيرنا، وكم عافانا وابتلى غيرنا، فإذا تعرض الإنسان للمرض عرف قيمة النعمة التي أنعم الله بها عليه؛ فأدَّى ذلك إلى شكره -سبحانه وتعالى-، وتذكر حال أهل البلاء فدعا الله لهم وله بالعافية، قال أحدهم: « إنما يعرف قدرَ الماء منْ ابتُلي بالعطشِ في الباديةِ، لا منْ كانَ على شاطىء الأنهار الجارية».

ومِن فوائد المحن -ولعلها أهمها-: استخراج عبودية الضراء (الصبر)، قال الله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155)، فالله يبتلي عباده ليختبرهم ويمتحنهم، فيستخرج منهم عبودية الضراء، وهي « الصبر »، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه) (رواه مسلم)، قال عبد الملك بن أبجر -رحمه الله-: « ما مِن الناس إلا مبتلى بعافية؛ لينظر كيف شكره أو بلية لينظر كيف يصبر »، وقال بعض السلف: « لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام، ولا جزع اللئام ».

علم عد آي القرآن الكريم

علم عد الآي: علمٌ من علوم القرآن المهمة، وهومن العلوم التي نقلها لنا أئمة هذا العلم، بسندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تعريف علم عد الآي: علم يبحث فيه عن أحوال آيات القرآن الكريم من حيث عدد الآيات في كل سورة، وبيان رأس الآية وخاتمتها، مَعزوًّا لناقله.
فوائد تعلم هذا العلم:
1) يُحتاج إليه لصحة الصلاة؛ فقد قال الفقهاء فيمن لم يحفظ الفاتحة بأن يأتي بدلها بسبع آيات.
2) اعتباره سببًا لنيل الأجر الموعود به على تعلّم عدد مخصوص من الآيات، أو قراءتها، مثل حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ) صححه الألباني في صحيح أبي داود.
3) اعتباره لصحة الخطبة؛ فقد أوجبوا فيها قراءة آية كاملة.
4) اعتباره في الوقف المسنون؛ إذ الوقف على رؤوس الآي سنّة؛ كما في حديث أمّ سلمة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً: « بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ »
وقد روي عن عمرو بن العلاء -رحمه الله- أنه كان يتعمَّد الوقوف على رؤوس الآي، ويقول: هو أحبُّ إليَّ، فقد قال بعضهم: إن الوقف عليه سنَّة.
وقال البيهقي -رحمه الله-  في الشعب: الأفضل الوقوف على رؤوس الآيات، وإن تعلقت بما بعدها؛ اتِّباعا لهَدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسنَّته.
وإذا لم يكن للقارئ خبرة بهذا الفن، فلا يتأتى له معرفه الوقف المسنون، وتمييزه من غيره.
5) اعتباره في باب الإمالة؛ فإن ورشًا، وأبا عمرو في رؤوس آي السور الإحدى عشر: (طه، والنَّجْمِ، والمعارج، والقِيامَة، والنّازِعات، وَعَبَسَ، والأَعْلَى، والشَّمْس، واللَّيْل، والضُّحَى، والعَلَق) يقللانها قولًا واحدًا، فلو لم يعلم القارئ رؤوس الآي عند المدني الأخير، والبصري فلا يستطيع معرفة ما يقللان باتفاق، وما يقللان بالخلاف.
6) الاحتياج إليه في معرفة ما يُسنّ قراءته بعد الفاتحة في الصلاة؛ فقد نصوا على أن من السنة قراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة.
توضيح المراد بالاختلاف في عدّ الآي: الاختلاف في علم عدّ الآي يراد به الاختلاف في تحديد موضع انتهاء الآيات، ولا يعني زيادة آيات، أو نقصها، أو زيادة ألفاظ، فسورة الإخلاص مثلًا أربع آيات في العد المدني الأول، والعد المدني الثاني، والعد البصري، والعد الكوفي، وخمس آيات في العد المكي، والعد الشامي، وخلافهم  في قوله تعالى:  {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} هل هي آية أم آيتان؟ فمن عدّها آية واحدة، فالسورة عنده أربع آيات، ومن عدها آيتين فالسورة عنده خمس آيات.
أهل العدد ستة: وهذ العدد موافق لعدد المصاحف التي وجه بها سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى الأمصار، وتفاصيلها كما يلي:
1- العدّ المدني الأول: وهو ما يرويه نافع، عن شيخيه أبي جعفر، وشيبة بن نصاح؛ ويرويه الكوفيون عنهم، دون تعيين أحد منهم بعينه، وهو العد الذي اعتمدناه لقالون، وأبي جعفر.
واختلف عنه في « فعقروها » من قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}[الشمس: 14] ، وقد اعتمدنا عده له.
2-  العدّ المدني الأخير: هو ما يرويه إسماعيل بن جعفر، وقالون، عن سليمان بن مسلم بن  جماز، عن شيبة، وأبي جعفر،
3- العدّ المكي: ما رواه عبد الله بن كثير، عن مجاهد بن جبر، عن ابن عباس -رضي الله عنه-، عن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العد الذي اعتمدناه لابن كثير.
– وقد اختلف عن المكي في « المسلمين » من قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}[الحج: 78]، وقد اعتمدنا عدها له.
– واختلف عنه في « قريبا » من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا}[النبأ: 40]، وقد اعتمدنا عدها له.
– واختلف عنه في « فعقروها » من قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}[الشمس: 14]، وقد اعتمدنا عدها له.
4- العدّ البصري: ما يرويه عاصم الجحدري، وأيوب بن المتوكل، ويعقوب الحضرمي، وهو العد الذي اعتمدناه لأبي عمرو البصري، ويعقوب الحضرمي.
وقد اختلف عن البصري في « أقول » من قوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ}[ص: 84]،  وقد اعتمدنا عدم عدها له.
5- العد الكوفي: ما رواه حمزة الزيات، عن ابن أبي ليلى، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وسفيان الثوري، عن عبد الأعلى، عن  أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهو العد الذي اعتمدناه لعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف في اختياره.
6- العدّ الدمشقي: وهو ما رواه يحيى بن الحارث الذماري، عن عبد الله بن عامر، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-، وهو العد الذي اعتمدناه لابن عامر.
وبعضهم يزيد عدًّا سابعًا هو العد الحمصي: وهو ما رواه شريح بن يزيد، مسندًا إلى خالد بن معدان.

مؤلفات في هذا العلم: هناك مؤلفات كثيرة أُلّفت في علم عدّ الىي نذكر منها: البيان للداني، وناظمة الزهر للشاطبي، وحسن المدد للجعبري، وسعادة الدارين في بيان وعد آي معجز الثقلين لمحمد بن علي بن خلف الحداد الحسيني، والقول الوجيز في معرفة فواصل الكتاب العزيز للمخللاتي، والفرائد الحسان للقاضي،  ومرشد الخلان إلى معرفة عد آي القرآن في شرح الفرائد الحسان لعبدالرزاق علي موسى، وغيرها.

خطبة ( من أخلاق المسلم: العفو والتسامح )

العفو خلق كريم، ومنزلة من منازل المقربين، وهو شِعار الصالحين الأنقياء، ذوي الحلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازل عن الحق نوع إيثار للآجل على العاجل، وبسط لخلق نقي تقيٍّ ينفذ بقوة إلى شغاف قلوب الآخرين، فلا يملكون أمامه إلا إبداء نظرة إجلال وإكبار لمن هذه صفته وهذا ديدنه.

والعفو عن الآخرين ليس بالأمر الهين؛ إذ له في النفس ثقل لا يتم التغلُّب عليه إلا بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقام للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياء الذين استعصوا على حظوظ النّفس ورغباتها، فمعنى العفو : هو :”التجاوز عن الذنب أو الخطأ ، وترك العقاب عليه”. ومن أسمائه سبحانه وتعالى “العفو”، يقول تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء:43] ومعناه: الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، ويصفح عمن تاب وأناب.

يقول الله تعالى في محكم آياته : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الاعراف 199، وقال الله تعالى: (سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (133) ،(134) آل عمران، ويقول سبحانه (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) النور 22 ،وروى الإمام أحمد في مسنده، قال رسول الله : ” وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَفْوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ “.

والعفو أيضا أمر نبوي: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ ». أي تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إلي. أخرجه النسائي وغيره ، وأخرج الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: « يَا عُقْبَة بْنَ عَامِرٍ؛ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ »، وأخرج الترمذي عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ الرَّجُلُ أَمُرُّ بِهِ فَلاَ يَقْرِينِي وَلاَ يُضَيِّفُنِي، فَيَمُرُّ بِي، أَفَأَجْزِيهِ؟ قَالَ: « لاَ، أَقْرِهِ ». أي أكرمه وأحسن ضيافته ولا تقابله بمثل فعله. وقد أخبر النبي ﷺ أن الله تعالى عفوّ كريم يحبّ من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، وأن يتجاوز بعضهم على بعض؛ فقد روى أحمد في مسنده : (قَالَتْ عَائِشَةُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ قَالَ « تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى »

العفو خلق الأنبياء والصالحين:

فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لقوا من أقوامهم ما لاقوه من سوء المعاملة! والتحريض عليهم! بل وصل الأمر إلى التعدي عليهم وضربهم! ومع هذا لم ينتقموا لأنفسهم! بل صبروا على الأذى الذي طالهم في سبيل نشر دعوتهم، وبذلوا وسعهم في بيان الحق لمن أرسلوا إليهم، وقابلوا إساءات أقوامهم بالصبر والشفقة عليهم ودعاء الله تعالى لهم، ففي صحيح مسلم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ « رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ».

وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نماذج رائعة للعفو والتسامح فقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم النموذج والمثل الأعلى في هذا الخلق الرفيع، ومن الأمثلة على ذلك: ما رواه البخاري ومسلم، أَنَّ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – زَوْجَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

ومن مواقف عفوه ﷺ أنه بعد فتح مكة وقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن آذوه وحاربوه وطردوه من بلده: ” يا مَعْشرَ قريشٍ، ما تَظُنُّونَ أني فاعِلٌ بكُمْ؟ قالوا: خيراً أخٌ كرِيمٌ، وابنُ أخٍ كريم، قال: فإنِّي أقُول لكم كما قال يوسفُ لإخوَتِه {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ } أذْهَبُوا فَأنْتم الطُّلَقَاء)

من صور العفو:

من صور العفو عند الصحابة والتابعين : فهذا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- خاض من خاض في عرض ابنته الطاهرة أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- في حادثة الإفك ومنهم ابن خالته مِسْطَح بن أُثاثه –رضي الله عنه- قبل أن تنزل براءتها من فوق سبع سموات، وكان الصديق يُنفق على مِسْطَح -رضي الله عنه- فلما بلغه ما يقول في الصديقة – رضي الله عنها – منع عنه ما كان يُعطيه إياه، فأنزل الله جل وعلا بعد أن برأها سبحانه مما رميت به –رضي الله عنها- (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب – يا ربنا – أن تغفر لنا.

وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يمر بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر، أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه. قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغِض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22].

ومن أجمل ما روي في الصفح والعفو أن جارية ميمون بن مهران جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} قال لها: قد فعلت. فقالت: اعمل بما بعده {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} . فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله.

فوائد العفو:

للعفو فوائد عظيمة ، وثمار يانعة ، ونتائجه جليلة، فبالعفو تنال العزة والشرف: فلا تظن أخي الكريم؛ أن العفو يَنِمّ عن ضعف وعجز وهوان، وإنما هو عزة وانتصار على النفس ووساوس الشيطان، فقد أخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاَ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ؟ قَالَ: « إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ». ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلاَثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ؛ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً ».

وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ ».

ومن ثمار العف وفوائده ، أنه بالعفو والصفح تنقلب العداوة إلى صداقة:، قال تعالى : ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].

جزاء أهل العفو:

جزاء أهل العفو عظيم في الدنيا والآخرة، ونكتفي بسرد هذا الحديث الذي يلخص مكانتهم، ويبين فضلهم، فقد روي عن علي بن الحسين أنه قال:

إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء علينا عفونا، فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين، ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما كان صبركم؟ فيقولون: صبّرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرنا عن معاصي الله، فيقولون لهم: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين، ثم ينادي فيقول: ليقم جيران الله! فيقوم ناس من الناس، وهم الأقل، فيقال لهم: بم جاورتم الله في داره؟ فيقولون: كنا نتجالس في الله، ونتذاكر في الله، ونتزاور في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. (حلية الأولياء )

حفل افتتاح الموسم الدراسي

برحاب مؤسسة الحاج البشير بتمارة تم يوم أمس الإثنين 17 أكتوبرر على الساعة 17.00 الحفل الافتتاحي لأكاديمية البشير للدراسات الإسلامية، وقد عرف الحفل الذي جمهور غفير يتقدمهم العلماء والأساتذة والطلبة، كما افتتحت الندوة التي عقدت تحت عناون طلب العلم، فضائله وآدابه، بآيات من الذكر الحكيم تلاها التلميذ معاذ الجبلي، بعدها تناول الكلمة الدكتور عبد الفتاح الفريسي رحب فيها بالحضور، كما تطرق إلى فلسفة الأكاديمية ومنهاجها في البناء المعرفي، مذكرا بجهود المغاربة في نشر العلم والمعرفة القرآنية ارتباطا بالأصل وانفتاحا على العصر، كما أشار إلى كون المؤسسة تستهدي في دربها الأكاديمي بثوابت المدرسة المغربية في العقيدة والفقه والسلوك.

وبعد كلمة الافتتاح قدم الدكتور أحمد أبو زيد أستاذ التعليم العالي وعضو اللجنة العلمية للمؤسسة عرضا علميا تطرق فيه إلى آداب طلب العلم مستعرضا مجموعة من أقوال العلماء في تأصيل التحصيل العلمي وبيان شروطه.

ثم كان الحضور على موعد مع الدكتور محمد الأمي السماعيلي أستاذ التعليم العالي وعضو اللجنة العلمية للأكاديمية الذي بين أهمية الإخلاص في مسيرة طالب العلم، مستوحيا أدلة ذلك من كنوز السنة النبوية وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي الختام شكر الدكتور عبد الفتاح الفريسي السادة العلماء الذين أثروا الندوة العلمية، كما بشر الأستاذ جمهور الحاضرين بميلاد نادي خريجي أكاديمية البشير للدراسات الإسلامية، الذي سيعمل على تأهيل الخريجين من خلال التكوين العلمي المستمر، والعمل على إشراكهم في أشطة المؤسسة وجهدها.

واختتم اللقاء بالدعاء الخالص لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس بالصحة والعافية والنصر والتمكين.

اجتماع اللجنة الجهوية للتعليم العتيق

بمشاركة الدكتور عبد الفتاح الفريسي تم يوم الأربعاء 14 ربيع الأول 1444 هـ الموافق 12 أكتوبر 2022 م، عن طريق التناظر المرئي، اجتماع اللجنة الجهوية للتعليم العتيق التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وقد بدأ الحفل بآيات بينات من الذكر الحكيم بعدها تناول الكلمة الدكتور محمد مقر المندوب الجهوي للشؤون الإسلامية عرض فيها حصيلة التعليم العتيق بجهة الرباط سلا القنيطرة بالموسم الماضي والحالي وقدم مجموعة من الإحصائيات التي تلخص جهود الوزارة الوصية في خدمة هذا النوع من الدراسة، كما قدم ملخصا للتوصيات للجنة الجهوية في اجتماعها السابق خلال شهر نونبر 2021

وبعد ذلك تناول الكلمة الدكتور عبد الفتاح الفريسي اقترح فيها أن يتم وضع الحصيلة التي تقدمت بها المندوبية الجهورية لتكون ورقة أرضية يتم الاعتماد عليها في استشراف مستقبل الخريطة العلمية والتربوية للتعليم العتيق بالجهة، كما اقترح الأستاذ الفريسي أن تقوم اللجنة الجهية بزيارات ميدانية لمدارس التعليم العتيق التابعة  للجهة يتم من خلالها جرد التحديات والإكراهات، وبعد ذلك  تناول الكلمة باقي أعضاء اللجنة الجهوية أكدوا فيها على أهمية الاجتماع، وطرحوا بعض الوسائل والحلول التي يرونها قادرة على رفع التحديات وتحقيق المكتسبات.

وفي الختام تم الاتفاق على مجموعة من الآليات التي تحقق تطويرا للتعليم العتيق على مستوى الجهة وهي كما يلي:

  1. ربط مدارس التعليم العتيق بمجموعة من الروافد والكتاتيب خلال إعداد الخريطة المدرسية بالجهة.
  2. دعم مادة القرآن الكريم تعاهده عبر منصة اليكترونية تعليمية ومسابقات قرآنية في حفظ وتجويد القرآن الكريم.
  3. تشجيع الأنشطة المدرسية والتربوية والرياضية
  4. دعم اللغات وطرق التواصل بمدارس التعليم العتيق.
  5. تنظيم حفل ختامي جهويا يتم فيه تكريم المتفوقين والتنويه بالعاملين في التعليم العتيق.

المولد النبوي بين الجفاء والادعاء

حينما اجتمع رأي غالبية المسلمين على سن الاحتفاء بالمولد النبوي كانوا يعلمون أن ذلك وسيلة من الوسائل التي يظهرون بها الفرحة والابتهاج بالرسول والرسالة، ويستلهمون منها معاني المحبة والصمود والثبات على المبادئ، ويقوموا بواجب التعريف بصفات المصطفى ﷺ وحقوقه ومواقفه.
ولا يجب أن ننسى في هذا المقام أن العلماء المسلمين لم يغب عنهم في يوم من الايام أن الصحابة والسلف الصالح لم يخصوا ذكرى المولد النبوي باحتفاء خاص، لأنهم وبكل بساطة كانوا يعيشون مع الرسول ورسالته كل يوم وكل ساعة، شبرا بشبر، ولكن حينما طال الأمد، وقست القلوب، وبعدت الشقة، واستشرى المرض في أوصال الأمة احتاج الناس لوسائل تجدد الإيمان في الناس، لعل لاهيا يسمع فينبه، أو غافلا ينصت فينزجر.
لا بد أن نعترف أن الأمة الإسلامية اليوم تعيش حالة من الضعف والمرض المستشري، وهي بالتالي تحتاج لمن يأخذ بيدها من خلال فقه تديني واعٍ، يراعي الأحوال، ويعتبر الغايات ويفقه المآلات، وكما أنه يشرع في حالة مرض الناس وسقمهم ما لا يشرع في حالة سلامتهم وصحتهم، فإن الاستعانة بوسائل غير ثابتة من ترسيخ ما هو ثابت أمر لا حرج فيه، بل أنه يأخذ حكم الغاية منه، وفي القواعد المعروفة عند العلماء أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إن الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف في رأينا وقع ضحية مذهبين متطرفين: (مذهب أهل الجفاء) الذي اعتبر المسألة مرفوضة جملة تفصيلا، باعتباره بدعة لم تؤثر عن القرون الثلاثة الأولى، (مذهب أهل الادعاء) الذين جعلوا الاحتفاء طقوسا جوفاء، وعادات رعناء، فكانت بذلك صورا لا حقيقة لها، ودعاوى لا روح لها.
والذي عليه انر الأمة وكلماتها الراسخون أن الاحتفال بالمولد النبوي سنة من السنن التي تشهد لها النصوص القرآنية والنبوية ويشهد لها العقل والفكرة السليمة
فالنصوص الثابتة تجعل من ولادة الأنبياء والرسل والأولياء والصالحين محطة مضيئة في تاريخ الإنسانية، وقد قال القرآن عن ولادة عيسى عليه السلام: (وسلام علي يوم ولدت)، وقد سئل رسول الله ﷺ عن صوم يوم الاثنين فقال : (ذلك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه).
روى الإمام البخاري تعليقا أن سيدنا العباس رأى أخاه أبا لهب بعد موته في النوم فقال له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين وأسقى من بين إصبعي هاتين ماء فأشار إلى رأس إصبعيه، وإن ذلك بإعتاق ثويبة عندما بشرتني بولادة النبي وبإرضاعها له .
وقد قال العلامة الحافظ شمس الدين بن الجزري في عرف التعريف بالمولد الشريف بعد ذكره قصة أبي لهب مع ثويبة:
فإذا كان هذا أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي ﷺ، فما حال المسلم الموحد من أمته عليه السلام ، يسر ويفرح بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته ﷺ ؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم .
والانصاف أمر واجب في حكم المولد النبوي، والاعتراف مطلوب، فلا جفاء ولا ادعاء، ورحم الله شيخ الإسلام أبا الفضل أحمد بن حجر العسقلاني حينما سئل عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا ، قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي ﷺ قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سُنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه: فهذا ما يتعلق بأصل عمله، وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به وما كان حراما أو مكروها فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى.
إن العالم من أوله إلى آخره لم يعرف بشرا مصفى، زكي السيرة والسريرة، مثل ما عرف في نبينا محمد ﷺ، ولم يعرف إنسانا شق طريق الكمال، ومهّد الخير للناس ودعاهم إلى الخير، ولو خلقت القلوب من حديد لما حملت ما تحمل ﷺ من العذاب، إنه لا يعرف قدر محمد وعظمته، إلا من درس تاريخ الأمم والمصلحين وساستهم ورواد الحضارات والدول، ليرى أن هؤلاء كلهم يتلاشون في نوره، ويتضاءلون أمام هديه، ولذلك فليس مدحه من قبيل تصنع الأفعال، وافتعال ما لا ينبغي، وليس الاحتفال بمولده ألفاظا تلوكها الألسن، أو قصائد تتلى بغير فهم، كلا ثم كلا، فحقيقة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق ما يصفه الواصفون، ويذكره به الذاكرون، وما قدمه من الجميل لا يعرف إلا الإنسان النبيل، الذي يجعل من يوم ولادته عيدا بكل المقاييس.
انتهى.

اوراق خضراء

كتاب (أوراق خضراء: الإسلام والبيئة) كتاب في بيان فلسفة الإسلام في قضية البيئة، مساهمة من صاحبها الدكتور عبد الفتاح الفريسي في إغناء الحوار الدائر حول البيئة والمناخ بمناسبة انعقاد مؤتمر الأطراف 22 COP الاتفاقية الإطار للأمم المتحدة بشأن تغير المناخ بين7 الى 18 نونبر في مراكش المغربية.
وهي ورقات قال الدكتور عبد الفتاح الفريسي عنها في مقدمة الكتاب قائلا: « نتمنى أن تتاح الفرصة لتعميق البحث فيها وإثراء ما جاء فيها من أفكار نعتقد أنها جديرة بالاهتمام والتفكير، خصوصا وأنها تشرك عنصر نصوص الدين ومدى قدرته على المساهمة في الحوار وتبادل الأفكار ».

وقد قسم الدكتور الفريسي مؤلفه إلى فصلين كبيرين مع مقدمة وخاتمة:

1. الفصل الأول: أسس حماية الإسلام للبيئة، خصصه المؤلف للحديث عن الأسس والقواعد التي بنى عليها الفقه الإسلامي فلسفته في قضية البيئة.

2. الفصل الثاني: مظاهر حماية الإسلام لعناصر البيئة، وتطرق فيه الفريسي إلى إن مظاهر حماية البيئة في الإسلام المتنوعة؛ منها ما نصت عليه الأدلة الشرعية، ومنها ما دعت إليه التعاليم الإسلامية بشكل عام.