القرآن الكريم وأمثال العرب

للمثل مكانة عظيمة وأهمية كبيرة عند العرب قبل الإسلام وبعده، فهو حكمتها، ودليل من أدلة بيانها وفصاحتها، وضرب من ضروب بديعها، وجوامع كلمها، وله تأثير قوي على النفوس الضالة، والقلوب النافرة، بما يقدمه من إعانة على الفهم، واستثارة للذهن، وتقريب للمعاني، وإبراز للحقائق، في صور بديعة، وألفاظ بليغة، لهذا دأب العلماء والأدباء في يتتبعون ما جاء في القرآن الكريم من أمثال العرب وحكمه، وألفوا في ذلك المؤلفات العديدة، وتنافسوا في ذلك نظرا لما للمثل من فوائد جليلة.

ويأتي كتاب: “الأمثال الكامنة في القرآن الكريم”  للحسين بن الفضل (ت282هـ) في رأٍ قائمة الكتب المؤلفة في هذا الباب، وقد رام صاحبه من خلاله أن يجمع بين الآيات القرآنية وأمثال العرب، يسأل عن المثل العربي ثم يجيب عن ذلك بما يوافقه من آي القرآن الكريم.

ومما جاء في الكتاب، أن أحدهم قال للحسين بن الفضل: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن،فهل تجد في كتاب الله : خير الأمور أوسطها؟

قال: نعم ؛ في أربعة مواضع :

1) ” لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك “.

2) ” والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما “.

3) ” ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط”.

4) ” ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا “.

فقيل: فهل تجد: من جهل شيئا عاداه ؟ قال: نعم في موضعين:

1) “بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه”.

2) “وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم”.

فقيل : فهل تجد : احذر شر من أحسنت إليه؟ قال : نعم.. “وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله “.

قيل : فهل تجد : ليس الخبر كالعيان ؟ قال: نعم .. “أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي “.

قيل : فهل تجد : في الحركة بركة ؟ قال : نعم .. “ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة “.

قيل : فهل تجد: كما تدين تدان؟ قال: نعم .. “من يعمل سوءا يجز به “.

قيل : فهل تجد : حين تلقى ندري ؟ قال : نعم.. “وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا “.

قيل : فهل تجد : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ؟ قال : نعم .. “هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل “.

قيل : فهل تجد : من أعان ظالما سلط عليه ؟ قال: نعم .. “كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير “.

قيل: فهل تجد فيه : لا تلد الحية إلا حية ؟ قال: نعم .. “ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا “.

قيل: فهل تجد فيه : للحيطان آذان ؟ قال: نعم ..: “وفيكم سماعون لهم “.

قيل: فهل تجد فيه :الحلال لا يأتيك إلا قوتا، والحرام لا يأتيك إلا جزافا ؟ قال: نعم .. ” إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم “.

لماذا نصوم ؟ (2): البعد الإنساني في الصوم

في مقالنا السابق أكدنا أن وجود الأثر العميق للتدين في واقعنا لا يتحقق إلا بالتأكيد على أهمية عرض الإسلام وأحكامه في عصرنا عرضا علميا ومقاصديا، يبرز الحكمة والقصد من التشريع، وأكدنا على أن شهر رمضان أصبح يمارس عند غالبية الناس على نحو يجرده من روحه الدينية العميقة المبنية على الفاعلية وعمق الاختيار، وليس على المفعولية وتقليد أهل الدار.

كما تناولنا في المقال السابق أيضا الحِكمة والمقصد الأول من ركن الصيام، وهو البعد الإنسانية، حيث تتجلى بوضوح مشاركة الصائم للآخرين الهموم ومتاعب الحياة، والعمل على التخفيف عن المقهورين، ومساندة المغلوبين، وبينا بكل أسف أن ممارسة المسلمين اليوم في شهر رمضان، لا تعكس مع الأسف الشديد روح الإنسانية في الإسلام، بدليل ارتفاع نفقات الطعام والشراب لدى الصائم، والإكثار من الاستهلاك الكمي والنوعي، إن على مستوى الطعام أو على مستوى إنتاج البرامج الإعلامية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، في وقت يعاني منه العالم الإسلامي سورة في توزيع الثروات، وهشاشة مادية وفكرية كان من المكن أن يكون شهر مضان رافدا من روافد معالجتها وتجاوز تحدياتها.

وبعد مقصد البعد الإنساني للصيام نقترح أن نعرض في هذا المقال إلى المقصد الثاني في سلسلة مقاصد الصيام، ألا وهو مبدأ الحرية والتحرير.

فالصيام مدرسة لترسيخ حرية الإنسان من شهوات ذاته وكبح جماح الرغبات السلبية لنفسه، ليتعلم كيف يقود الذات، ويتحكم في قيادتها نحو العطاء، ومعنى ذلك أن الصوم يبني الإنسان من جديد، ويساهم في تجديد العنصر الأول في إنشاء العمران
وحين أن الإنسان حينما ينجح في تجاوز شهوة نفسه، ويتمكن من تحقيق التوازن في القلب والقالب، والفكر والجسد، والمادة والروح، فإنه يصبح إنسانا مؤهلا للفعل الحضاري والبناء العمراني من زاوية الفاعلية.

يقول الدكتور مراد هوفمان: (وبالنسبة لي لعل أهم أثر جانبي لصوم رمضان أن اختبر ما إذا كنت ما أزال سيد نفسي أم أننى صرت عبدا لعادات تافهة، وما إذا كنت ما أزال قادراً على التحكم في نفسي أم لا؟ وأتمنى أن يكون فرحا وليس غرورا ذلك الذي أشعر به بعد انتهاء آخر أيام رمضان أي عند صلاة المغرب، من أننى استطعت بعون الله أن أصومه).

عندما أرقب إدمان المسلمين في رمضان للبرامج الإعلامية الترفيهية التافهة بل والهادمة للقيم، وانشغالهم بها عن اغتنام ساعات رمضان الغالية، أقول: هل استطاع صيامنا أن يبنينا ويعيد ولادتنا من جديد كما هو مطلوب؟!
إن الصائم إذا نجح بالصيام في تحرير نفسه من هواها، صار قادرا على البناء والتغيير المنشود.

من المهم أن يتعلم الصائم كيف يختار وهو حرّ.. ومن المهم جدًا أن يكون تعلّم كيف يختار نتائج حريته بوعي، فالمستقبل قابع في نوعية اختيارات اليوم، ولا مجال للانخداع بمجرد أننا نقوم بعملية اختيار ما، فهذا شأن غير الواعين بحقيقة الحرية ومعالم ممارستها.

لماذا نصوم ؟ (1): البعد الإنساني في الصوم

شهر رمضان خير ما يفرح به المؤمن ، كيف لا ؟ وقد مدَّ الله له في عمره ليبلغه هذا الشهر الكريم ليكون فرصة لرفع الدرجات وزيادة الحسنات وتحقيق المقاصد والغايات.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح إذا دخل رمضان، وكان من هَديه -عليه الصلاة والسلام- توجيه الناس إلى خيرَي الدُّنيا والآخرة، وحَثّ الناس على استغلال أوقات هذا الشهر بحَثّهم على فِعل الخيرات، وتشجيعهم على الإكثار من الطاعات.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستعد لرمضان، وينير المساجد بالقناديل، وجمع الناس على صلاة التراويح لقراءة القرآن، وبعد موته قال علي بن أبي طالب: نوّر الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نوّرت مساجد الله بالقرآن.

شهر رمضان فرصة ذهبية عظيمة يحرص عليها العاقل، ويشمّر لها الفطن، كان يحيى بن أبي كثير يدعو ويقول: “اللهم سلمنا إلى رمضان وسلم لنا رمضان وتسلمه منا متقبلا”، ويقول الحسن البصري رحمه الله: “إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون! ويخسر فيه المبطلون!”.

وربّ سائل يسأل لماذا نصوم؟
وهو سؤال وجيه يتكرر كثيرا على ألسنة الشباب والمهتمين، في عصر نشأ الناس في بيئة مفتوحة، والتي تريد أن تعقل كل شيء ولا تقبل الفكرة قبل معرفة المقصد والحكمة.

والملاحظ أن القرآن الكريم حافل بذكر العلة والغاية وبيان الحكمة من أحكام التشريعات، فقد بين أن الحكمة من الصيام تحقيق التقوى فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} البقرة: 183، وأن الحكمة من الصلاة الذكر والصلة بالله، فقال: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} العنكبوت: 45، وأن مقصد الزكاة والصدقة تطهير النفس من الشح فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة: 103، وأن الحكمة من الحج ذكر الله وشهود المنافع وتحقيق المنافع الحسية والمعنوية فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الحج: 28.

وإننا نعتقد أن الخطاب الديني اليوم بحاجة ماسة إلى تجديد وسائله وطرق عرضه للدين وشريعته، عبر اعتماد خطاب يؤكد على روح الشرع وفلسفة الأحكام وعلتها، في وقت بدأ التشكيك في المسلّمات الدينية، وانتشرت الأفكار التي تضع كل شيء تحت البحث ومجهر المختبر.
ونحن نؤمن أن أحكام الدين كلها مبنية على الحكمة ومعقول المعنى، لكنها حكمة تظهر لأناس وتخفى على غيرهم، مما يستوجب إدامة البحث واستخدام النظر والبحث.

ومما يؤسف له أن موروثنا الفقهي، وحاضر الخطاب الديني طغى عليه التركيز على صور العبادات وتصحيح أشكالها ومبانيها، على حساب بيان روحها ومعانيها، وقد نتج عن هذا غياب أثر العبادة وروحها في واقع المسلمين، وأصبح الناس يمارسون مختلف العبادات كالصلاة والصوم والحج وغيرها على نحو يجردها من مغزاها وبعدها الحقيقي، وأصبحت جزءا مظهريا متحررا من روح الشريعة وإنسانية الإنسان.

وعودا على السؤال المطروح في عنوان هذه المقالة، لماذا نصوم ؟

نقول إن مقاصد الصيام التي تؤكد على حقيقته وإعجازه وصلاحيته كثيرة، نضع بين أيدي القارئ بعضا منها، لتكون للمؤمن سببا لزرع الطمأنينة والثقة في دينه ليزداد إيمانا، {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} البقرة: 260ـ وتكون كذلك لغير المؤمن سببا في الانفتاح على دين الإسلام بطريقه تعتمد التفكير عوضا عن التقليد في الحكم له أو عليه.

وحِكم الصيام ومقاصده كثيرة يمكن أن نتدارس اليوم حكمة نطلق عليها مقصد الصوم الإنساني، وذلك أن يجوع الصائم ويجاهد نفسه لبعض الأوقات فيتولد بذلك عنده الشعور بمن يجوع كل الأوقات، وتكون نتيجة ذلك الإحساس السعي إلى مدّ يد العون إلى الجائعين ومحاربة كل أشكال التمييز المادي في المجتمع، وتحقيق المساواة بين الناس، خصوصا إذا علمنا أن البشرية تفقد كل يوم حوالي 21 ألفا يموتون بسبب الجوع، جزء مهم منهم في العالم الإسلامي.

إننا نؤكد أن المقصد الإنساني حاضر في روح دين الإسلام في كل العبادات، ففي الصلاة تحضر مساواة الأجسام لا يتقدم إنسان على إنسان، فالكل سواء، وفى الصوم مساواة البطون، لا يمتاز فيها بطن على بطن، وفى الزكاة مساواة في الأموال لا تمتلئ في جيب وتفقر منها في جيب، وفى الحج مساواة في اللباس لا يتميز لباس عن لباس.

ومعنى ما سبق أن إنسانية الإسلام ظاهرة واضحة في تشريعات الصوم وأحكامه، غير أن واقع المسلمين وممارساتهم اليوم في شهر رمضان، لا تعكس حضور هذا المعنى؛ فقد أصبح شهر رمضان أكثر شهور السنة التي ينفق فيها على الطعام والشراب، حتى صارت بطون الصائمين تتألم من كثرة الطعام بعد الإفطار.

في شهر رمضان اليوم يرتفع استهلاك الأغذية بدلا من أن ينخفض، أما ما ينخفض بالتأكيد فهو مردودية الإنتاج والعمل.
إن إنسانية الإسلام ظاهرة واضحة في تشريع الدين الإسلامي وأحكامه، غير أن المسلمين اليوم لم ينجحوا في تجسيد هذه القيم والحكم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.

وإنني لأتساءل بحق، ماذا لو رفع المسلمون في العالم شعار: (أجود الناس) وقاموا بجمع الأموال الفائضة عنهم في الإنفاق على الطعام خلال شهر رمضان، وإيصالها للجائعين والفقراء والمحتاجين وعالجوا الهشاشة والفقر المستشريين في عالمنا الإسلامي.

إعادة طرح أكبر مؤلف مغربي في المذهب المالكي

في 71 مجلدا أصدرت الرابطة المحمدية للعلماء أوسع شرح لـ”مختصر خليل”، الذي يعدّ أكبر كتاب ألّف في المذهب المالكي، وهو للقاضي الفقيه أبي علي الحسن بن رحّال المعداني (التدلاوي ثم الفاسي)، الذي توفي سنة 1140 هجرية، وعاش بين القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، وهو دفين مدينة مكناس.

ويعد “فَتْحُ الفَتّاحِ على مختصر الشيخ خليل”، وفق الرابطة المحمدية للعلماء، “خزانة موسوعية في توثيق الأعراف والعوائد التي تنبني عليها الأحكام الشرعية، وما اعتراها من أحوال وتغيرات، ترتب عليها تغير الفتاوى والأقضية”.

ويتضمن هذا الكتاب الذي طبع بدار ابن حزم بلبنان “مسحا شاملا لمصادر المذهب المالكي”، واقتصر فيه مؤلفه على “أبواب المعاملات” دون “أبواب العبادات”، وشرح مسائله موردا ما اتصل بها من فتاوى النوازل، وأجوبة مسائل الأحكام، واجتهادات قضائية، وما جرى به العمل عند القضاة والموثّقين والنوازليين عبر الأزمنة والبلدان، خاصة بالمغرب والأندلس.

هذا العمل الذي شارك في تحقيقه جماعة من الأساتذة، تحت إشراف مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي التابع للرابطة المحمدية للعلماء، أداره محمد العلمي، رئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي والأستاذ بكلية الحقوق بسلا.

وقال مدير العمل، في تصريح لهسبريس، إن “فتح الفتاح” يعد “أكبر شرح للمصدر المعتمد في الفتوى في المذهب المالكي، وهو مختصر الشيخ خليل المتوفى سنة 779هـ”؛ فـ”من أصل حوالي 420 شرحا وحاشية ألفها المالكية على هذا المختصر، اعتبر “فتح الفتاح” أكبر شرح من بينها، خصوصا أنه اقتصر فيه على المعاملات، حيث بدأ من باب النكاح إلى باب الفرائض، ولم يتعرض لأبواب العبادات”.

وأضاف “لقد ألف “فتح الفتاح” في عهد السلطان مولاي إسماعيل بن الشريف، ولم يؤلف بعده ولا قبله بالمغرب أكبر منه، فهو أضخم مجهود علمي في فقه المعاملات في عهد الدولة العلوية الشريفة. بل أكاد أجزم بأنه من أكبر كتب الفقه في المذاهب الأربعة، حيث لم نجد في مصادرها ما بلغ هذا الحجم في فقه المعاملات فقط.”

وأحاط ابن رحال في هذا الكتاب، وفق المصدر نفسه، بـ”الاجتهادات الفقهية والقضائية والتأويلية لأزيد من ثمانية قرون من المذهب المالكي، حتى قالوا عنه: كاد يحتوي على جميع نصوص المذهب. كما اشتمل على روح موسوعية وعميقة معا في الاستدلال والتعليل والتوجيه للمسائل الفقهية، والإفادة من المذاهب المختلفة ومناقشاتها، والاختيار والترجيح بينها.”

وتابع رئيس مركز البحوث في الفقه المالكي قائلا: “وحيث إن الفقه الإسلامي يتطور بالنوازل والأقضية، فقد دعم المؤلف شرح المسائل الفقهية بإيراد ما يتصل بها من فتاوى النوازل، وأجوبة مسائل الأحكام، واجتهادات قضائية، وما جرى به العمل عند القضاة والموثقين والنوازليين عبر الأزمنة والبلدان، خصوصا بالمغرب والأندلس.”

هذا الكتاب يمثل أيضا “خزانة موسوعية في توثيق الأعراف والعوائد التي تنبني عليها الأحكام الشرعية، وما اعتراها من أحوال وتغيرات، أثرت على تغير الفتاوى والأقضية، وتطور الرؤية الفقهية ومواكبتها للمستجدات”، وهو ما يكشف عن “جانب من أسلوب علماء المغرب وإسهامهم في عصر النهضة”.

وحول راهنية الكتاب، ذكر المدير المشرف على العمل أن “فتح الفتاح ينتمي إلى دائرة المصادر الآمنة والمسؤولة للثقافة الدينية والفقه الإسلامي، في زمن حصل تشويش عام في مصادر المعرفة الدينية؛ جراء النزعات الفوضوية والتفكيكية التي تحاصر الشباب وتدفعهم إلى أوضاع مجهولة، وبعيدة عن الثقافة التي سهر العلماء وأولو الأمر على سيادتها في المجتمعات الإسلامية طيلة التاريخ.”

وأضاف “هذا الكتاب وإن كان كتاب تخصص، فإنه مصدر مهم جدا لمن يتصدى للتوجيه الديني والإفتاء في المعاملات، حيث يمنحه معرفة فقهية صحيحة، ويمكنه من كافة الاجتهادات والأنظار الفقهية المسؤولة، التي كانت أساس التساكن الاجتماعي وقوام الأمن الروحي والمشروعية الدينية في آن واحد.”

لهذه الأسباب، يقول العلمي إن تحقيق هذا العمل بدأ “في مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي التابع للرابطة المحمدية للعلماء، بعناية كريمة وإشراف مباشر من السيد الأمين العام د أحمد عبادي، في شتاء سنة 2011م”، وهكذا “حصّلنا مجموعة من النسخ الخطية، أهمها نسخة المؤلف ابن رحال التي حبَّسها وقفا على أبنائه ثم على خزانة القرويين التي تحتفظ بها إلى الآن تحت عدد: 2012، وتقع في ستة أسفار كبار. كما حصلنا على نسخ خطية مساعدة، أهمها نسخة الخزانة الحسنية بعدد: 8650.”

وتابع قائلا: “لقد تم تحقيق الكتاب على مرحلتين: أولاهما: خصصناها لكتابة النص وتصحيحه. والثانية لتحقيق النص وتوثيقه. وانتهت المرحلة الأولى سنة 2014، ولم تنته المرحلة الثانية إلا في شتاء سنة 2019.”

ونهض بهذا العمل فريق من ثلاث مجموعات، أولاها: مجموعة الأساتذة والعلماء المحققين، وقد استقر عددهم في 41 باحثا، منهم 23 أستاذا جامعيا، منهم 12 باحثا حاصلا على الدكتوراه من منتسبي المراكز التابعة للرابطة وغيرهم، ومنهم 4 مسجلون حاليا في الدكتوراه، وبينهم فقيهان من العلماء المدرسين في التعليم العالي العتيق، وقد كان ضمن المشاركين في التحقيق ثلاث باحثات متخصصات في الفقه المالكي.

وثاني المجموعات لجنة للتحكيم والمراجعة، وهي لجنة علمية عينها الأمين العام لرابطة العلماء برئاسة عبد اللطيف الجيلاني، رئيس مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة، وعضوية محمد السرار، رئيس مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة التابع للرابطة، ومحمد العلمي، رئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي، مع مساعدة الناجي لمين، أستاذ بمؤسسة دار الحديث الحسنية، في تحقيق عدد من الأجزاء.

أما ثالث المجموعات فكان دورها “الإدارة والتنسيق”، وترأسها رئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي، وكان أعضاؤها من باحثي المركز.

وبعد نهاية العمل، يقول العلمي، “قمنا بتحرير دراسة للكتاب ومؤلفه، خصصنا لها المجلد الأول، ثم ذيلنا النص بمعجم لأهم المصطلحات والأعلام والكتب المذكورة في “فتح الفتاح”، وخصصنا المجلدين الأخيرين للفهارس الموضوعية لكل الأجزاء.”

وبعد صدور الكتاب عقب 11 سنة من البناء والتتميم، رجّح رئيس مركز البحوث والدراسات في الفقه المالكي أن أول ما سيعكف عليه الباحثون هو “إعداد فهارسه العلمية، خصوصا فهرس المسائل الفقهية، الذي سييسِّر الوقوف على المحتويات لطلابها في وقت سريع”.

وفي ختام تصريحه لهسبريس، جدد رئيس المركز التابع للرابطة المحمدية للعلماء شكره لـ”السادة الأساتذة العلماء المحققين والمحكمين، الذين بذلوا جهدا عظيما لا يعلمه إلا الله ليخرج هذا العمل الذي يشرف المؤسسة ويشرف الوطن، ويقدم صورة مشرقة عن علماء المغرب وباحثيه.”

المصدر:هسبريس

فوائد المحن والابتلاءات

اقتضت حكمة الله -تعالى- أن لا يخلق شرًّا محضًا، بل أودع الله فيما يظنه العبد شرًّا خيرًا كثيرًا، والمؤمن العارف بربه يستطيع أن يغيِّر النقم إلى نعم، ويستبدل المحن بالمنح؛ لذا كان العارفون يفرحون بالبلاء كما يفرح الواحد منا بالرخاء؛ لما تنكشف مع البلاء والاقدار الحكم والأسرار، وصدق -سبحانه وتعالى- القائل: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء:19)، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتلاء الأنبياء والصالحين بالمرض والفقر، وغيرهما، ثم قال: (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ، كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ) (رواه ابن ماجه)، وقال وهب بن منبه -رحمه الله-: “إن مَن قبلكم كان إذا أصاب أحدهم بلاء عدّه رخاءً، وإذا أصابه رخاء عدّه بلاء”، وقال بعض علماء السلف: “يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظمُ من نعمته عليك فيما تُحبّ”.

ومِن أعظم فوائد المحن أنها تظهر لنا قدر النعمة، وتوقظ العبد من غفلته، وتهمل على تطوير مهاراته، وتجديد حياته، فكثيرا ما ينسى المرء نعما جزيلة عنده، بسبب زحمة الحياة والانهماك في دروبها ودياجيرها؛ وتأتي المحن لتوقظ النائم، وتقيم الغافل، قال -تعالى-: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف:168)، والمعنى: بلوناهم بالنعم والمصائب؛ ليرجعوا إلى ربهم، وينيبوا إليه، ويتوبوا عن معاصيه، قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: “ما يكره العبدُ خيرٌ له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه”.

ومِن فوائد المحن: أنها تعرِّف العبد حقيقةً الدنيا، وأنها طبعت على كدر، وأنها بين لحظة وأخرى تنقلب على صاحبها، قال -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20).

ومِن فوائد المحن: أنها تكفِّر الذنوب والخطايا، وتقرب العبد من رب العباد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ) (متفق عليه)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال بعض السلف: “لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس”.

ومِن فوائد المحن: أنها تطهر القلوب وتنقي النفوس، قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب زاد المعاد: “لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة، وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا، فمِن رحمة الله -أرحم الراحمين- أن يتفقده في الأحيان بأنواع أدوية المصائب تكون حمية له مِن هذه الأدواء، وحفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان مَن يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه! فلولا أنه -سبحانه- يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء؛ لطغوا وبغوا وعتوا، والله -تعالى- إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا سقاه دواءً مِن الابتلاء والمحن على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه”.

ومِن فوائد المحن: أنها تذكر حال أهل البلاء، فالإنسان لا يعرف قيمة النعمة التي أنعم الله عليه فيها إلا إذا شاهد أهل البلاء؛ فكم أقامنا الله وأقعد غيرنا، وكم أصحنا وأمرض غيرنا، وكم عافانا وابتلى غيرنا، فإذا تعرض الإنسان للمرض عرف قيمة النعمة التي أنعم الله بها عليه؛ فأدَّى ذلك إلى شكره -سبحانه وتعالى-، وتذكر حال أهل البلاء فدعا الله لهم وله بالعافية، قال أحدهم: « إنما يعرف قدرَ الماء منْ ابتُلي بالعطشِ في الباديةِ، لا منْ كانَ على شاطىء الأنهار الجارية».

ومِن فوائد المحن -ولعلها أهمها-: استخراج عبودية الضراء (الصبر)، قال الله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155)، فالله يبتلي عباده ليختبرهم ويمتحنهم، فيستخرج منهم عبودية الضراء، وهي “الصبر”، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه) (رواه مسلم)، قال عبد الملك بن أبجر -رحمه الله-: “ما مِن الناس إلا مبتلى بعافية؛ لينظر كيف شكره أو بلية لينظر كيف يصبر”، وقال بعض السلف: “لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام، ولا جزع اللئام”.

علم عد آي القرآن الكريم

علم عد الآي: علمٌ من علوم القرآن المهمة، وهومن العلوم التي نقلها لنا أئمة هذا العلم، بسندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تعريف علم عد الآي: علم يبحث فيه عن أحوال آيات القرآن الكريم من حيث عدد الآيات في كل سورة، وبيان رأس الآية وخاتمتها، مَعزوًّا لناقله.
فوائد تعلم هذا العلم:
1) يُحتاج إليه لصحة الصلاة؛ فقد قال الفقهاء فيمن لم يحفظ الفاتحة بأن يأتي بدلها بسبع آيات.
2) اعتباره سببًا لنيل الأجر الموعود به على تعلّم عدد مخصوص من الآيات، أو قراءتها، مثل حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ) صححه الألباني في صحيح أبي داود.
3) اعتباره لصحة الخطبة؛ فقد أوجبوا فيها قراءة آية كاملة.
4) اعتباره في الوقف المسنون؛ إذ الوقف على رؤوس الآي سنّة؛ كما في حديث أمّ سلمة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”
وقد روي عن عمرو بن العلاء -رحمه الله- أنه كان يتعمَّد الوقوف على رؤوس الآي، ويقول: هو أحبُّ إليَّ، فقد قال بعضهم: إن الوقف عليه سنَّة.
وقال البيهقي -رحمه الله-  في الشعب: الأفضل الوقوف على رؤوس الآيات، وإن تعلقت بما بعدها؛ اتِّباعا لهَدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسنَّته.
وإذا لم يكن للقارئ خبرة بهذا الفن، فلا يتأتى له معرفه الوقف المسنون، وتمييزه من غيره.
5) اعتباره في باب الإمالة؛ فإن ورشًا، وأبا عمرو في رؤوس آي السور الإحدى عشر: (طه، والنَّجْمِ، والمعارج، والقِيامَة، والنّازِعات، وَعَبَسَ، والأَعْلَى، والشَّمْس، واللَّيْل، والضُّحَى، والعَلَق) يقللانها قولًا واحدًا، فلو لم يعلم القارئ رؤوس الآي عند المدني الأخير، والبصري فلا يستطيع معرفة ما يقللان باتفاق، وما يقللان بالخلاف.
6) الاحتياج إليه في معرفة ما يُسنّ قراءته بعد الفاتحة في الصلاة؛ فقد نصوا على أن من السنة قراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة.
توضيح المراد بالاختلاف في عدّ الآي: الاختلاف في علم عدّ الآي يراد به الاختلاف في تحديد موضع انتهاء الآيات، ولا يعني زيادة آيات، أو نقصها، أو زيادة ألفاظ، فسورة الإخلاص مثلًا أربع آيات في العد المدني الأول، والعد المدني الثاني، والعد البصري، والعد الكوفي، وخمس آيات في العد المكي، والعد الشامي، وخلافهم  في قوله تعالى:  {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} هل هي آية أم آيتان؟ فمن عدّها آية واحدة، فالسورة عنده أربع آيات، ومن عدها آيتين فالسورة عنده خمس آيات.
أهل العدد ستة: وهذ العدد موافق لعدد المصاحف التي وجه بها سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى الأمصار، وتفاصيلها كما يلي:
1- العدّ المدني الأول: وهو ما يرويه نافع، عن شيخيه أبي جعفر، وشيبة بن نصاح؛ ويرويه الكوفيون عنهم، دون تعيين أحد منهم بعينه، وهو العد الذي اعتمدناه لقالون، وأبي جعفر.
واختلف عنه في “فعقروها” من قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}[الشمس: 14] ، وقد اعتمدنا عده له.
2-  العدّ المدني الأخير: هو ما يرويه إسماعيل بن جعفر، وقالون، عن سليمان بن مسلم بن  جماز، عن شيبة، وأبي جعفر،
3- العدّ المكي: ما رواه عبد الله بن كثير، عن مجاهد بن جبر، عن ابن عباس -رضي الله عنه-، عن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العد الذي اعتمدناه لابن كثير.
– وقد اختلف عن المكي في “المسلمين” من قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}[الحج: 78]، وقد اعتمدنا عدها له.
– واختلف عنه في “قريبا” من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا}[النبأ: 40]، وقد اعتمدنا عدها له.
– واختلف عنه في “فعقروها” من قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}[الشمس: 14]، وقد اعتمدنا عدها له.
4- العدّ البصري: ما يرويه عاصم الجحدري، وأيوب بن المتوكل، ويعقوب الحضرمي، وهو العد الذي اعتمدناه لأبي عمرو البصري، ويعقوب الحضرمي.
وقد اختلف عن البصري في “أقول” من قوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ}[ص: 84]،  وقد اعتمدنا عدم عدها له.
5- العد الكوفي: ما رواه حمزة الزيات، عن ابن أبي ليلى، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وسفيان الثوري، عن عبد الأعلى، عن  أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهو العد الذي اعتمدناه لعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف في اختياره.
6- العدّ الدمشقي: وهو ما رواه يحيى بن الحارث الذماري، عن عبد الله بن عامر، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-، وهو العد الذي اعتمدناه لابن عامر.
وبعضهم يزيد عدًّا سابعًا هو العد الحمصي: وهو ما رواه شريح بن يزيد، مسندًا إلى خالد بن معدان.

مؤلفات في هذا العلم: هناك مؤلفات كثيرة أُلّفت في علم عدّ الىي نذكر منها: البيان للداني، وناظمة الزهر للشاطبي، وحسن المدد للجعبري، وسعادة الدارين في بيان وعد آي معجز الثقلين لمحمد بن علي بن خلف الحداد الحسيني، والقول الوجيز في معرفة فواصل الكتاب العزيز للمخللاتي، والفرائد الحسان للقاضي،  ومرشد الخلان إلى معرفة عد آي القرآن في شرح الفرائد الحسان لعبدالرزاق علي موسى، وغيرها.

خطبة ( من أخلاق المسلم: العفو والتسامح )

العفو خلق كريم، ومنزلة من منازل المقربين، وهو شِعار الصالحين الأنقياء، ذوي الحلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازل عن الحق نوع إيثار للآجل على العاجل، وبسط لخلق نقي تقيٍّ ينفذ بقوة إلى شغاف قلوب الآخرين، فلا يملكون أمامه إلا إبداء نظرة إجلال وإكبار لمن هذه صفته وهذا ديدنه.

والعفو عن الآخرين ليس بالأمر الهين؛ إذ له في النفس ثقل لا يتم التغلُّب عليه إلا بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقام للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياء الذين استعصوا على حظوظ النّفس ورغباتها، فمعنى العفو : هو :”التجاوز عن الذنب أو الخطأ ، وترك العقاب عليه”. ومن أسمائه سبحانه وتعالى “العفو”، يقول تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء:43] ومعناه: الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي، ويصفح عمن تاب وأناب.

يقول الله تعالى في محكم آياته : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الاعراف 199، وقال الله تعالى: (سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (133) ،(134) آل عمران، ويقول سبحانه (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) النور 22 ،وروى الإمام أحمد في مسنده، قال رسول الله : ” وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَفْوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ “.

والعفو أيضا أمر نبوي: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ ». أي تجاوزوا عنها ولا ترفعوها إلي. أخرجه النسائي وغيره ، وأخرج الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: « يَا عُقْبَة بْنَ عَامِرٍ؛ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ »، وأخرج الترمذي عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ الرَّجُلُ أَمُرُّ بِهِ فَلاَ يَقْرِينِي وَلاَ يُضَيِّفُنِي، فَيَمُرُّ بِي، أَفَأَجْزِيهِ؟ قَالَ: « لاَ، أَقْرِهِ ». أي أكرمه وأحسن ضيافته ولا تقابله بمثل فعله. وقد أخبر النبي ﷺ أن الله تعالى عفوّ كريم يحبّ من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، وأن يتجاوز بعضهم على بعض؛ فقد روى أحمد في مسنده : (قَالَتْ عَائِشَةُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ قَالَ « تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى »

العفو خلق الأنبياء والصالحين:

فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لقوا من أقوامهم ما لاقوه من سوء المعاملة! والتحريض عليهم! بل وصل الأمر إلى التعدي عليهم وضربهم! ومع هذا لم ينتقموا لأنفسهم! بل صبروا على الأذى الذي طالهم في سبيل نشر دعوتهم، وبذلوا وسعهم في بيان الحق لمن أرسلوا إليهم، وقابلوا إساءات أقوامهم بالصبر والشفقة عليهم ودعاء الله تعالى لهم، ففي صحيح مسلم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ « رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ».

وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نماذج رائعة للعفو والتسامح فقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم النموذج والمثل الأعلى في هذا الخلق الرفيع، ومن الأمثلة على ذلك: ما رواه البخاري ومسلم، أَنَّ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – زَوْجَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِى عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِى ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ ، فَسَلَّمَ عَلَىَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

ومن مواقف عفوه ﷺ أنه بعد فتح مكة وقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن آذوه وحاربوه وطردوه من بلده: ” يا مَعْشرَ قريشٍ، ما تَظُنُّونَ أني فاعِلٌ بكُمْ؟ قالوا: خيراً أخٌ كرِيمٌ، وابنُ أخٍ كريم، قال: فإنِّي أقُول لكم كما قال يوسفُ لإخوَتِه {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ } أذْهَبُوا فَأنْتم الطُّلَقَاء)

من صور العفو:

من صور العفو عند الصحابة والتابعين : فهذا أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- خاض من خاض في عرض ابنته الطاهرة أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- في حادثة الإفك ومنهم ابن خالته مِسْطَح بن أُثاثه –رضي الله عنه- قبل أن تنزل براءتها من فوق سبع سموات، وكان الصديق يُنفق على مِسْطَح -رضي الله عنه- فلما بلغه ما يقول في الصديقة – رضي الله عنها – منع عنه ما كان يُعطيه إياه، فأنزل الله جل وعلا بعد أن برأها سبحانه مما رميت به –رضي الله عنها- (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب – يا ربنا – أن تغفر لنا.

وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يمر بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر، أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى. قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه. قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغِض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [النور: 22].

ومن أجمل ما روي في الصفح والعفو أن جارية ميمون بن مهران جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارة، وعنده أضياف فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} قال لها: قد فعلت. فقالت: اعمل بما بعده {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} . فقال: قد عفوت عنك. فقالت الجارية: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرة لوجه الله.

فوائد العفو:

للعفو فوائد عظيمة ، وثمار يانعة ، ونتائجه جليلة، فبالعفو تنال العزة والشرف: فلا تظن أخي الكريم؛ أن العفو يَنِمّ عن ضعف وعجز وهوان، وإنما هو عزة وانتصار على النفس ووساوس الشيطان، فقد أخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاَ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ؟ قَالَ: « إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ». ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلاَثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ؛ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً ».

وفي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ ».

ومن ثمار العف وفوائده ، أنه بالعفو والصفح تنقلب العداوة إلى صداقة:، قال تعالى : ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].

جزاء أهل العفو:

جزاء أهل العفو عظيم في الدنيا والآخرة، ونكتفي بسرد هذا الحديث الذي يلخص مكانتهم، ويبين فضلهم، فقد روي عن علي بن الحسين أنه قال:

إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الفضل، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء علينا عفونا، فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين، ثم ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقاهم الملائكة، فيقولون: ما كان صبركم؟ فيقولون: صبّرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرنا عن معاصي الله، فيقولون لهم: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين، ثم ينادي فيقول: ليقم جيران الله! فيقوم ناس من الناس، وهم الأقل، فيقال لهم: بم جاورتم الله في داره؟ فيقولون: كنا نتجالس في الله، ونتذاكر في الله، ونتزاور في الله، فيقولون: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين. (حلية الأولياء )

المولد النبوي بين الجفاء والادعاء

حينما اجتمع رأي غالبية المسلمين على سن الاحتفاء بالمولد النبوي كانوا يعلمون أن ذلك وسيلة من الوسائل التي يظهرون بها الفرحة والابتهاج بالرسول والرسالة، ويستلهمون منها معاني المحبة والصمود والثبات على المبادئ، ويقوموا بواجب التعريف بصفات المصطفى ﷺ وحقوقه ومواقفه.
ولا يجب أن ننسى في هذا المقام أن العلماء المسلمين لم يغب عنهم في يوم من الايام أن الصحابة والسلف الصالح لم يخصوا ذكرى المولد النبوي باحتفاء خاص، لأنهم وبكل بساطة كانوا يعيشون مع الرسول ورسالته كل يوم وكل ساعة، شبرا بشبر، ولكن حينما طال الأمد، وقست القلوب، وبعدت الشقة، واستشرى المرض في أوصال الأمة احتاج الناس لوسائل تجدد الإيمان في الناس، لعل لاهيا يسمع فينبه، أو غافلا ينصت فينزجر.
لا بد أن نعترف أن الأمة الإسلامية اليوم تعيش حالة من الضعف والمرض المستشري، وهي بالتالي تحتاج لمن يأخذ بيدها من خلال فقه تديني واعٍ، يراعي الأحوال، ويعتبر الغايات ويفقه المآلات، وكما أنه يشرع في حالة مرض الناس وسقمهم ما لا يشرع في حالة سلامتهم وصحتهم، فإن الاستعانة بوسائل غير ثابتة من ترسيخ ما هو ثابت أمر لا حرج فيه، بل أنه يأخذ حكم الغاية منه، وفي القواعد المعروفة عند العلماء أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إن الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف في رأينا وقع ضحية مذهبين متطرفين: (مذهب أهل الجفاء) الذي اعتبر المسألة مرفوضة جملة تفصيلا، باعتباره بدعة لم تؤثر عن القرون الثلاثة الأولى، (مذهب أهل الادعاء) الذين جعلوا الاحتفاء طقوسا جوفاء، وعادات رعناء، فكانت بذلك صورا لا حقيقة لها، ودعاوى لا روح لها.
والذي عليه انر الأمة وكلماتها الراسخون أن الاحتفال بالمولد النبوي سنة من السنن التي تشهد لها النصوص القرآنية والنبوية ويشهد لها العقل والفكرة السليمة
فالنصوص الثابتة تجعل من ولادة الأنبياء والرسل والأولياء والصالحين محطة مضيئة في تاريخ الإنسانية، وقد قال القرآن عن ولادة عيسى عليه السلام: (وسلام علي يوم ولدت)، وقد سئل رسول الله ﷺ عن صوم يوم الاثنين فقال : (ذلك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه).
روى الإمام البخاري تعليقا أن سيدنا العباس رأى أخاه أبا لهب بعد موته في النوم فقال له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين وأسقى من بين إصبعي هاتين ماء فأشار إلى رأس إصبعيه، وإن ذلك بإعتاق ثويبة عندما بشرتني بولادة النبي وبإرضاعها له .
وقد قال العلامة الحافظ شمس الدين بن الجزري في عرف التعريف بالمولد الشريف بعد ذكره قصة أبي لهب مع ثويبة:
فإذا كان هذا أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي ﷺ، فما حال المسلم الموحد من أمته عليه السلام ، يسر ويفرح بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته ﷺ ؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم .
والانصاف أمر واجب في حكم المولد النبوي، والاعتراف مطلوب، فلا جفاء ولا ادعاء، ورحم الله شيخ الإسلام أبا الفضل أحمد بن حجر العسقلاني حينما سئل عن عمل المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا ، قال : وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي ﷺ قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سُنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه: فهذا ما يتعلق بأصل عمله، وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به وما كان حراما أو مكروها فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى.
إن العالم من أوله إلى آخره لم يعرف بشرا مصفى، زكي السيرة والسريرة، مثل ما عرف في نبينا محمد ﷺ، ولم يعرف إنسانا شق طريق الكمال، ومهّد الخير للناس ودعاهم إلى الخير، ولو خلقت القلوب من حديد لما حملت ما تحمل ﷺ من العذاب، إنه لا يعرف قدر محمد وعظمته، إلا من درس تاريخ الأمم والمصلحين وساستهم ورواد الحضارات والدول، ليرى أن هؤلاء كلهم يتلاشون في نوره، ويتضاءلون أمام هديه، ولذلك فليس مدحه من قبيل تصنع الأفعال، وافتعال ما لا ينبغي، وليس الاحتفال بمولده ألفاظا تلوكها الألسن، أو قصائد تتلى بغير فهم، كلا ثم كلا، فحقيقة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق ما يصفه الواصفون، ويذكره به الذاكرون، وما قدمه من الجميل لا يعرف إلا الإنسان النبيل، الذي يجعل من يوم ولادته عيدا بكل المقاييس.
انتهى.

أوراق خضراء: الإسلام والبيئة

تأتي هذه الورقات العلمية مساهمة متواضعة في إغناء الحوار الدائر حول البيئة والمناخ بمناسبة انعقاد مؤتمر الأطراف 2 COP الاتفاقية الإطار للأمم المتحدة بشأن تغير المناخ بين7 الى 18 نونبر في مراكش المغربية، ومساهمة في إماطة اللثام عن نظرة الإسلام للبيئة، وهي نظرة تتميز بالشمولية والتنوع، لا يملك المتأمل فيها إلى أن يقف إجلالا وتقديرا لها، ونتمنى أن تتاح الفرصة لتعميق البحث فيها وإثراء ما جاء فيها من أفكار نعتقد أنها جديرة بالاهتمام والتفكير، خصوصا وأنها تشرك عنصر نصوص الدين والعقيدة في المساهمة في الحوار وتبادل الأفكار حول الحياة والبيئة من حولنا

مفاتيح التعامل مع القرآن الكريم

نعني بمفاتيح التعامل مع القرآن الكريم، مجموعة الأدوات التي نعتبرها ضرورية للتعرف على حقيقة القرآن الكريم واستبصار معانيه واسراره، واستخراج كنوزه الداعية إلى كل خير.
وتعتبر هذه المفاتيح أساساً لحسن فهم المعاني القرآنية واستبصارها، وتمهيداً منهجيا في التعامل مع القرآن الكريم
وها نحن نعمل على تتبع المفاتيح المنهجية في التعامل مع القرآن الكريم وجعلها في متناول المؤمنين وجمهور الباحثين من أهل القرآن والباحثين عن كنوزه، ليتعرفوا عليها، ويقفوا على معالمها*:
1- إعداد النفس إعدادا روحيا يتأهل به قارئ القرآن لدخول عالم النص القرآني، لتقبل الهداية القرآنية وتجليات القرآن وفيوضاته.
2- أن يتم النظر إلى القرآن الكريم باعتباره منظومة متكاملة وكتابة هداية شاملة للدنيا والآخرة، ومنهاج حياة شامل، يجمع بين الرباني والواقعية.
3- أن يتم التركيز على الهدف العملي الواقعي للقرآن الكريم، عبر استبصار معالم التغيير من خلال معانيه الداعية إلى كل خير.
4- استحضار قيمة النص القرآني، باعتباره كلام الله، والحق المطلق والصدق اللامتناهي، والخير الجليل والهدى العظيم.
5- معايشة إيحاءات النص وظلاله ولطائفه، وملاحظة غنى النصوص بالمعاني والدلالات الشاملة في معانيها، العظيمة في توجيهاته وايحاءاته.
6- ان نجعل من سياق الزمان والمكان طريقا معينا لفهم النص القرآني لا هدفا في حد ذاته، ومعنى ذلك أن نعمل على تحرير النصوص القرآنية، لنفهمها في سياق عام صالح لكل زمان ومكان.
7- استشعار أن النص القرآني رسالة إلى الإنسان والمجتمع، بل هو رسالة إلى الكون كله، يقول الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء (التخصيص هو أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن، فإن سمع أمرًا أو نهيًا قدر أنه المأمور أو المنهي، وإن سمع وعدًا أو وعيدًا فكمثل ذلك، وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمع غير مقصود، بل المقصود العبرة والعظة ومضاعفة الإنتاج الإيماني.
8- حسن التلقي عن القرآن، وذلك باستحضار وسائل الفهم وأدوات التدبر، وتطهير النفس من الموانع والحجب، وعلى المسلم أن يدرك أن فهم القرآن، إنما هو من نعم الله عليه وهو من فتوحات الله عليه.
9- تسجيل الخواطر والمعاني لحظة ورودها؛ لأن لذة هذه الخواطر قد تزول بمجرد مغادرة الإنسان لعالم القرآن وانشغاله بالدنيا، بينما لو سجلها سيشعر بسعادة غامرة لذا يجب أن يجعلها كنزًا من كنوزه الثمينة.
10- التمكن من أساسيات علوم التفسير، وهذا شرط لابد منه لتكون استنتاجات القارئ صحيحة، واستدلالاته مقبولة، ونظراته صائبة، وتدبره في القرآن علمي منهجي، ونتائجه يقينية قاطعة.
11- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة، وهذا لا يتعارض مع فكرة دخول عالم القرآن متجردًا من الأفكار السابقة؛ لأن الخلفية الثقافية للقارئ وسيلة نافعة للتعامل مع القرآن.
12- العودة المتجددة للآيات والزيادة في معانيها، حتى يكتشف في كل زيارة الشيء المفيد الذي لم يكتشفه سابقًا حتى ليظن كل مرة أنها أول مرة يقرأ فيها القرآن.
13- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة والتعامل معها على أنها وحدة موضوعية كاملة متجانسة، وهذا لا يعني عدم وجود وحدة موضوعية بين كل القرآن.
14- متابعة الاستعمال القرآني للمصطلح الواحد، وهذا دليل على إبداع اللغة العربية.
هذه كانت بعض مفاتيح التعامل مع القرآن، أسال الله أن ينفعنا الله وإياكم بها.
____هوامش________
* ننصح بمراجعة كتب في الموضوع
– (كيف نتعامل مع القرآن) للشيخ محمد الغزالي رحمه الله
– (كيف نتعامل مع القرآن العظيم) للدكتور يوسف القرضاوي
– (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للدكتور صالح عبد الفتاح الخالدي،