الحِكم العطائية: 14

الكون هو ما خلق الله مما كونته القدرة وأظهرته للعيان، وهو كله من حيث كونيته ، وظهور حسه كله ظلمة وإنما أناره تجلي الحق به وظهوره فيه، فمن نظر إلى الظاهر الكون رآه ظلمة ظلمانيّة، ومن نفد إلى نظر إلى باطنه رآى معالم فدرة الملك الحق نورا ملكوتيّا، قال اللّه تعالى : [اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ].
والحكمة تدعو إلى النظر إلى شمس المعاني وعدم الوقوف مع ظاهر حس المباني، كما أشار الششتري بقوله:
لا تنظر إلى الأواني، وخض بحر المعاني، لعلك تراني
◇ ‏فاللهم نوّرْ قلوبَنا بالإيمان، وزيّنْ عقولنا بالحكمة، وعافِ أبدانَنا بالصحةِ والعافيةِ، واشْمَلْنا بعفوكَ ورحمتِكَ ولطْفِك، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
◇ *En* 14.The Cosmos is all darkness. It is illumined only by the manifestation of God in it.
Whoever sees the Cosmos and does not contemplate Him in it or by it or before it or after it is in need of light
and is veiled from the sun of gnosis by the clouds of created things.
◇ *Fr*. L’univers tout entier est ténèbres ; seule l’éclaire l’apparition en lui de Dieu-Réalité.
Qui regarde l’univers et ne voit Dieu-Réalité ni en lui ni près de lui, ni avant lui, ni après lui, est dépourvu de toute lumière : le soleil de la Connaissance est voilé pour lui par les nuages (que sont à ses yeux) les traces (de Pacte créateur).

الحِكمة: 13

تقريب المعاني: الحياة بغير إيمان قصة بلا معنى، وصورة بغير روح، حكاية مملوءة بالمآسي، وسرد يثقل الأقدام والنواصي.

وإذا كان العلم والتجربة يدلان على كنه الحقائق الكلية، فإن الإيمان يكسب عين الحقائق وأرواحها، ويحيط بها كما تحيط الهالة بالأقمار، فدولة الإيمان في حياة السائرين الى الله نور وراحة، وهي بالنسبة لهم الشمس التي تضيء القلوب، وتهدي الأرواح لتتضح الرؤية، وتنجلي الأسرار ويتحقق سر الإبصار.
وإذا لم تكن مرأة القلب مصقولة، غير منطبعة بالنقائص وعوائق المكونات لم تكن قادرة على أن تعكس الأنوار، وتترجم الأسرار، قال جلال الدّين الرومي: “أتعلم لماذا لم تكن مرآتك غمازة، لأن الصدأ لم يزل عن وجهها، فامض وأزل عن وجهها الصدأ، وبعد ذلك أدرك ذلك النور” .
◇ فاللهم طهر قلوبنا من كل وصف يُباعدنا عن مشاهدتِك ومحبتِك، وأدمْ علينا عيْنَ عنايتك، واستُرنا بستركَ الجميلِ في الدنيا والآخرة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

Fr. Comment un cœur pourrait-il être illuminé tant que les formes des choses existantes se reflètent dans son miroir ?
– Où comment pourrait-il entreprendre son voyage vers Dieu, s’il est entravé par la concupiscence ?
– Où comment désirerait-il ardemment entrer dans la présence de Dieu sans s’être purifié de la souillure de son insouciance ?

الحِكمة: 12

تقريب المعاني:
إنّ هذا الحكمة تؤكد على أهمية حفظ القلب باعتباره أساس كل بناء ذاتي وتغيير نحو الصلاح، كما جاء في الحديث الشريف: «ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
وهذه الحكمة تؤكد على نفع العزلة في صلاح أحوال القلب، وتساعده على الاعتبار و التفكر في تنمية الفكر وتطوير الذات.
ولا بد من التأكيد هنا على أن المطلوب في هذا المجال التربوي عزلة جزئية لا العزلة الكلية الدائمة، فالأصل هو المخالطة للناس والمساهمة في التوجيه والتفاعل معهم والصبر على آذاهم ومخالفتهم، فالعزلة وسيلة آنية وليست غاية ومنهجاً مستمرا، يبتعد به المرء عن واجب خدمة المجتمع، ويقصي نفسه عن الحياة وواجب البناء فيها والتغيير.
رحم الله صاحب شفاء الرقم إذ يقول في هذا المعنى:
بعُزلةِ الـمرْءِ يسْلمُ مِنْ مَعاطِبهِ
ويبرأ القلبُ من الأمراضِ والعللْ
بصافي الفكرِ يُدْركُ مِن مآربـِه
ويبلغ السُّؤلَ والمطْلوبَ والأمـلْ
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
◇ Fr. Rien n’est plus profitable au cœur que l’isolement ; par lui, il entre dans l’arène de la méditation.
◇En. Nothing benefits the heart more than a spiritual retreat wherein it enters the domain of meditation (maydān fikra).

الحِكمة: 11

◇ هذه الحكمة أفضل نصيحة وأعظم هدية لمن يريدون الظهور قبل أوانه، ولمن يتوهمون أن قليلا من العلم والمعرفة كاف في الترشيح للقيادة والإمامة في الدنيا والدين، فإن درجة الإمامة فى الحياة تتطلب صبر السنين، وتغضين الجبين.
فليدفن العاقل نفسه أولا فى تربة التواضع، وليركن إلى زاوية عزلة وليتسلح بسلاح تؤدة الصمت، كالشجرة كلما كان أصلها غائرا فى خفي التراب، كان نتاجها في ظاهر الأرض أحسن منظرا ورِئيا.
◇ فاللهم ارزقنا التقوى فإنها أفضل المراتب، وارزقنا التواضع فإنه أحسن الصفات، وارزقنا الإحسان فإنه أجمل الأعمال، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
◇ 11. Enfouis ton existence sous le sol d’une vie obscure ; le germe issu d’une graine non enfouie ne parvient pas à L produire des fruits.

الحِكمة :10

الحِكم العطائية: 10
حكمة 10: “الأَعْمالُ صُوَرٌ قَائَمةٌ، وَأَرْواحُها وُجودُ سِرِّ الإِخْلاصِ فِيها”.
◇10. Les œuvres sont des silhouettes dressées dont l’âme est la pureté d’intention.
إخلاص العمل لله تعالى سر من أسرار الله يودعه قلب من يحب من عباده، فهو روح الأعمال وأساسها، والعمل بغيره جسد بغير روح، وأساس من غير بنيان، وشيء بغير معنى.
◇ اللهمَّ لا تحرمني وأنا أدعوك، ولا تخيبني وأنا أرجوك، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحِكمة :9

الحِكم العطائية: 9
حكمة 9: “تَنَوَّعَتْ أَجْناسُ الأَعْمالِ لِتَنَوُّعِ وارِداتِ الأَحْوالِ”.
◇9. Actions differ because the inspirations of the states of being differ.
*تقريب المعاني:*
لمّا كانت الواردات النفسية والروحية التي ترد على القلوب متنوعة ومختلفة، كانت أجناس الأعمال التي تقتضيها هذه الواردات أيضا متنوعة، فأعمال الجوارح الحسية أبدا تبعٌ وانعكاس طبيعي لأعمال القلوب النفسية، ولذلك قالوا إن حسن الأعمال نتائج طبيعية لحسن الأحوال.
◇ اللهُمَّ طهِّرْ قلوبَنا من كلِّ وصفٍ يُباعدُنا عن مشاهدتكَ ومحبّتكَ، وأمِتْنا على السّنةِ والجماعَةِ، يا ذا الجلالِ والإكرام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحكمة: 8

تقريب المعاني:
معرفة الله تعالى وتوحيده هما غاية المطالب ونهاية الآمال والمآرب، فإذا وفق الله عبده وواجهه ببعض أسبابها، وفتح له باب التعرف له منها، وأوجد له السكينة والطمأنينة فيها، فذلك من النعم الجزيلة؛ فينبغي للعبد ألاّ يهتم بما يفوته لسبب ذلك من أعمال البر.
فقلة العبادة مع أداء الواجبات للمجتبَين لا تضر، وكثرة الطاعات مع أداء الواجبات للمحجوب عن الله تعالى لا تفيد، ولا بد من أداء الواجبات، وذرة من أعمال القلوب مِثْل الصبر والرضى والتوكل، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح.
وفي هذا المعنى قيل:
من بعد ما يفتَحِ المولى تـعــرّفَه
فلا تـبـال إذا أقللتَ فـي الـــعــمــل
فـــما مِن الله تظهَر فــيـه منتُه
وما مِن العبدِ منسوبٌ إلى الخطَل
فكلُّ ما منهُ محفوظٌ بــلا ريـبٍ
وكــل مــا مـنكََ لا ينفكّ عن خلل
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
◇Fr. Si Dieu t’ouvre un accès à la connaissance, muni de cette faveur, ne t’inquiète pas de la diminution de tes bonnes œuvres. En effet, Dieu ne t’a fait cette Ouverture que parce qu’Il veut se faire connaître à toi. Ne sais-tu pas que cette voie vers la Connaissance est un don qu’Il t’accorde ; quant à tes bonnes œuvres, ce sont des présents que tu Lui fais. Quel rapport y a t-il entre tes présents et le don qu’Il t’accorde ?

الحكمة: 7

تقريب المعاني:
الموعد من الله صادق ووعده تعالى حق، فلا ينبغي أن يشك العبد ويتردد في وعد سيده ومولاه، وليطمئن إلى وعده، ويعلم يقينا أنه واقع ليس له مانع، قال الله جل ذكره: ﴿ألا إن نصر الله قريب﴾ وما أحسن من قال في هذا المعنى:
فلا تشك فـي الـموعودِ إنّ له ○○ وقتا متى حانَ جاءَ بالفتحِ والفرجِ
لا تخمدنّ لنـورِ الـسّرِّ واعْـزِلْه ○○ منْ همكَ أو شكك المقـرون بالحرجِ
کمْ ما تضيق أمر العُسرِ كانَ له ○○ مِن الفرجِ مخرجٌ والضيقُ منْفرجِ
فاللهُمَّ اقسم لنا من الإيمان بوعدك واليقين بموعودك ما تهون به علينا مصائب الدنيا.

◇An. If what was promised does not occur, even though the time for its occurrence had been fixed,
then that must not make you doubt the promise.
Otherwise your intellect will be obscured and the light of your innermost heart extinguished.
◇ Fr. Que ne te fasse pas douter de la promesse divine le fait qu’elle ne s’accomplit pas, même si le terme en est arrivé, afin que ce doute ne soit pas la causè d’une brèche dans ta clairvoyance et d’une extinction de la Lumière sise dans le repli secret de ton cœur.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تعزية

*تعـــزيـــــة*

ببالغ التسليم والرضا بقضاء الله وقدره، تلقينا نبأ وفاة *الحاج الحبيب المهنديز* مؤسس مدرسة الحاج البشير القرآنية وأحد رعاتها.

وبهذه المناسبة الأليمة يتقدم الأستاذ الدكتور عبد الفتاح الفريسي أصالة عن نفسه ونيابة عن أسرة مدرسة الحاج البشير الإدارية والتربوية إلى أسرة الفقيد، بأصدق عبارات التعازي وعظيم المواساة، سائلين الله العلي القدير أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته وعظيم مغفرته، وينعم عليه بعفوه ومغفرته، ويسكنه فسيح جناته، ويكرم نزله ويوسع مدخله.

وإنا لله وإنا إليه راجعون

*عبد الفتاح الفريسي*

مدير عام مؤسسة الحاج البشير

تمارة – المملكة المغربية

إخراجُ زكاة الفطر نقداً.. رُباعية الدِلالات والترجيح

مع دخول العشر الأواخر من رمضان كل عام يكثر الجدل والجدال حول مدى مشروعية إخراج زكاة الفطر مالاً، ونظل ندور كل عام في ذات الدائرة وكأننا نبدأ النقاش فيها للمرة الأولى، ويُنبئنا هذا الجدل عن أزمة عميقة الجذور في الأمة؛ فى إدارتها وتعاملها مع الاختلاف في قضايا الفروع، والاختلاف قائم منذ العهد النبوي بين مدرستين: النص والقصد، لكن تعامل الصحابة والسلف والأئمة معه لم يكن كتعاملنا نحن اليوم؛ حيث غدا الاختلاف فى الفروع سبيلا للتفسيق والتشنيع والتبديع والتحزيب والتفريق، بينما كان السابقون شعارهم قول الإمام الشافعي: “ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة”.

ومن تعاجيب الزمن أن ينتقل الخلاف في هذه القضية إلى الساحة الأوروبية، حيث نظام الحياة وإشكالية الحصول على الحبوب وإيصالها إلى المساكين دون خسارة مالية، فضلاً عن دلالات الوقوف عند ظاهر النص لدى المسلم الأوروبي الجديد، أو تفهم العقلية الأوروبية عموماً لفكرة إغناء الفقير يوم العيد بالحبوب دون المال!

على أن المسألة التى نحن بصدد مناقشتها يفترض أن لا يقع بشأنها خلاف؛ لأن منشأ الخلاف فيها راجع إلى طبيعة العصر الذي عاش فيه السابقون من الفقهاء، وللنص على العلة التى هي مناط الحكم، فكانت تلك العلة في عصرهم متحققة بالحبوب والأصناف الواردة في الحديث، بينما صارت اليوم نفس العلة متحققة بالنقود، ولهذا فإن المسألة كاشفة بوضوح عن أزمة العقل الفقهي المعاصر، وعجزه عن التجديد في أضيق الدوائر وهى دائرة استيعاب النص وتنزيل الحكم على الواقع. وفي هذا المقال أتناول باختصار دِلالات استمرار الجدل في المسألة كل عام، ومُرجِّحات القول بدفع القيمة في زكاة الفطر، كل واحدة منهما في أربع نقاط.

أولاً: الدِلالات الأربع للدوران في جدل الحبوب والمال

غياب فقه الاختلاف وقصده


روى البخاري في صحيحه أن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للنساء يوم عيد الفطر: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» قال البخاري:” فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا”

لقد تأسس التشريع الإسلامي على أصول وفروع، شكلَّت الأصول الثوابت الفكرية الجامعة للأمة، والفروع مساحات المرونة والاجتهاد ليُصبح الإسلام صالحاً لكل العصور والظروف والأمكنة، وقد اختلف الصحابة والتابعون في الفروع وقعَّدوا لذلك القواعد منها قاعدة: “لا إنكار في مسائل الاجتهاد”، فلم ينكر أحدٌ على أحد في الفروع، لكنّ الأمة اليوم فى إدارة خلافها في هذه المسألة الجزئية الفرعية الخلافية ينكر بعضُها على بعض، ويسعى كل فريق لإلغاء رأى الآخر بل صار الاختيار الفقهي فيها معقداً للولاء والبراء، والحب والبغض، والاتباع والابتداع، ومعياراً أصيلاً لقياس العلم والتدين، وإذا كان الحال هكذا في خلاف معتبر فكيف سيكون فيما هو أعظم؟ إن الاختلاف في الفروع سبيل مؤدٍ إلى الاجتماع والوحدة، فكيف نجعله سبيلاً للتفرق والتباغض؟

الانشغال بالفروع والجزئيات عن الأصول والكليات

من يراقب حال أمتنا يجدها انجرت إلى البقاء في تلك الجزئيات الخلافية تدور فيها كل عام لا تخرج منها إلى ما هو أهم وأعظم وإلى ما يتصل بوجودها وقِيَمها وهويتها، وأنه وقع تبديد لجهود وطاقات العلماء في تلك الفروع مثل مسألة القيمة، وتهنئة غير المسلمين بأعيادهم، والاحتفال بالمناسبات الدينية. ولم نر اهتماماً واستنفاراً وسيلا من البحوث والفتاوى حول واجب المسلمين في نصرة المظلومين والمعتقلين، أو إقامة العدل ومنع الظلم، أو مقاومة الاستبداد واستدعاء الشورى، أو محو الأمية والفقر، أم أن السنة والاتباع لا يُعرف إلا في إطار العبادات الفردية التى لا تمس الأنظمة المستبدة، أو تعكر عليها مسيرتها في ظلم الشعوب وإفقارها؟

نذير بتعقد أمر التجديد الفقهي، والاجتهاد الإبداعي

عصرنا هو أكثر العصور كثرة للمستجدات وحفزاً للاجتهاد والإبداع الفقهي، ورغم ذلك بقيت قضية تجديد الفقه في دائرة: ماهية التجديد، وكيف نجدد، ومن المجدد؟ لكنَّا لم نلج بعد باب التجديد ولم ننتج فقهاً جديداً لعصرنا، وبقينا في دائرة الاجتهاد الانتقائي الذي يقوم الفقيه فيه بانتقاء رأى فقهي قال به السابقون، ثم يعمل على ترجيحه وتقوية دليله ليكون صالحا للعصر، وهو ما حدث في مسألة القيمة في زكاة الفطر حيث رجَّح عدد من المعاصرين رأى أبي حنيفة ولم يكن اجتهادا إبداعيا لم يسبقهم إليه أحد، ورغم ذلك لم تتقبله الأمة بقبول حسن أو قطاعا كبيرا منها، فكيف سيكون الحال إذا كنا أمام الاجتهاد الإبداعي الإنشائي الذي نتجاوز فيها فقهنا الموروث وإن كان سيتأسس عليه؟ وهذا يضاعف من مسؤولية علماء الأمة ومفكريها أن تبذل جهدها لإيجاد البيئة الحاضنة للاجتهادات الفقهية الجديدة وإلا ستتعقد عملية التجديد الفقهي المنشود.

ظاهرة حضور الشكل والصورة، وغياب الروح والقصد

المسألة التى نحن بصدد النقاش حولها تؤكد ولع الأمة بالصورة والشكل على حساب الروح والجوهر، فترى قطاعا من الناس يتقدمهم مجموعة من العلماء يرون إخراج الحبوب والطعام ولا يرون صحة غيره البتة حتى وإن تيقنوا من أنه ليس في مصلحة الفقير وباعثهم على ذلك هو: اتباع السنة. ومن عجيب ما قرأت رد أحد العلماء على الاحتجاج بتضرر الفقير وخسارته في علمية استبدال الحبوب بالمال قال: لعلها فرصة للفقير أن يتعلم التجارة ويربح!

وتلك قصية تحتاج بحق إلى دراسة اجتماعية ونفسية وسلوكية، فما الذي جعل قطاعاً كبيراً في الأمة بهذه السطحية الضاربة في فهم المسلمين للعبادات والأحكام، ومن المسؤول عن هذا الحال: العلماء، أم مؤسسات التعليم الشرعي، أم أنظمة الحكم؟ كما توجب على المختصين في مقاصد الشريعة ان يراجعوا جهدهم ونتاجهم، وأن يسائلوا أنفسهم لماذا غابت المقاصد وروح الدين عن حياة المسلمين رغم كثرت الكتابات المقاصدية، ومعاهد وأقسام مقاصد الشريعة، وهل يمكننا أن ننقل الفكر المقاصدي إلى السياسة والدعوة ومناحي الحياة إذا كنا قد فشلنا في تفعيلها فيما هو أهم وأوضح وهو دائرة الأحكام؟

ثانياً: المرجحات الأربعة لدفع زكاة الفطر مالاً في عصرنا

1. الترجيح بالنص


المقصد هو أن يشعر الفقير بفرحة العيد مثل الغني، والفقير اليوم يحتاج أن يشتري لأولاده الملابس الجديدة وهدايا العيد، ولا يصح فيها اليوم غير المال، وقد رأينا عشرات المرات المساكين يبيعون الحبوب لنفس التجار الذين اشترى منهم الأغنياء

روى البخاري في صحيحه أن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للنساء يوم عيد الفطر: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» قال البخاري:” فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا”. قال ابن حجر في الفتح: وعلى غير عادة البخاري في مخالفته للأحناف أن اتفق معهم في إخراج صدقة الفطر نقوداً، وفي جواز إخراج العوض في الزكاة وبوب البخاري باباً سماه “باب العرْض”.

2. الترجيح بكثرة القائلين بجواز إخراج القيمة

يُوهم من يتحدث في المسألة أن أبا حنيفة فقط هو من قال بجواز إخراج القيمة في زكاة الفطر، والحقيقة على خلاف ذلك. وهذه قائمة بالفقهاء الذين قالوا بالقيمة أحصاها فضيلة الشيخ الحبيب بن طاهر: *من الصحابة رضوان الله عليهم* عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عبّاس، ومعاذ بن جبل. قال أبو إسحاق السبيعي من الطبقة الوسطى من التابعين، قال: أدركتهم ـ يعني الصحابة ـ وهم يعطون في صدقة رمضان الدّراهم بقيمة الطّعام. (مصنف ابن أبي شيبة: 3/174، وعمدة القارئ: 9/8).

و*من أئمّة التابعين* عمر بن عبد العزيز، فعن قرّة قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر: نصف صاع عن كلّ إنسان أو قيمته نصف درهم. والحسن البصري، قال: لا بأس أن تعطى الدّراهم في صدقة الفطر، و طاووس بن كيسان، وسفيان الثوري. (مصنف ابن أبي شيبة: 3/174، وموسوعة فقه سفيان الثوري: 473، وفتح الباري: 4/280).

و*من فقهاء المذاهب* أبو عمرو الأوزاعي، وأبو حنيفة النعمان وفقهاء مذهبه، وأحمد بن حنبل في رواية عنه، والإمام البخاري، وشمس الدين الرملي من الشافعية، ومن المالكية: ابن حبيب وأصبغ وابن أبي حازم وابن وهب، وقال الشيخ الصاوي: “الأظهر الإجزاء لأنّه يسهل بالعين سدّ خلّته في ذلك اليوم”. وقد أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث قرارا بجواز دفع القيمة قرار 4/23، (يونيو) 2013م.

3. الترجيح بالقياس

قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: (خذ الحَبَّ من الحَبِّ، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر) وهو صريح في دفع الأعيان، لكن معاذاً رضي الله عنه فهم قصد الزكاة، ولم يتعامل مع النص على أنه تعبدي غير معلل فقال لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس {أنواع من الأقمشة} في الصدقة مكان الشعير والذرة؛ فإنه أهون عليكم وأنفع لمن بالمدينة، وقد أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولئن جاز في الزكاة وهى الأعلى جاز من باب أولى في زكاة الفطر وهي الأدني.

4. الترجيح بالمقاصد

شُرعت زكاة الفطر لمقصد منصوص عليه في الحديث الصحيح وهو: طهرة للصائم من الرفث واللغو، وطعمة للفقراء والمساكين، وفي الحديث الضعيف على الأرجح: اغنوهم عن ذل السؤال في هذا اليوم. فالمقصد هو أن يشعر الفقير بفرحة العيد مثل الغني، والفقير اليوم يحتاج أن يشتري لأولاده الملابس الجديدة وهدايا العيد، ولا يصح فيها اليوم غير المال، وقد رأينا عشرات المرات المساكين يبيعون الحبوب لنفس التجار الذين اشترى منهم الأغنياء تلك الأصناف بثمن أقل، فهل شرعت زكاة الفطر لإغناء التجار على حساب الفقراء، وإضاعة وقت الفقير في عملية التبادل والمقايضة؟ وبوسع الفقير أن يشتري حبوبا بالمال دون خسارة، ولا يسعه أن يحصل على المال إن أخذ حبوبا إلا بالخسارة. إن القول بتعبدية الأصناف المذكورة في الحديث يوقعنا كمسلمين في حرج عدم مناسبة الإسلام لكل زمان ومكان. على أن الرافضين لدفع القيمة يلجؤون لتقصيد العبادة فلا يلتزمون بالأصناف الواردة في الحديث، ويقولون بإخراجها من غالب قوت البلد، وهو إقرار بالتعليل والتقصيد، وهو أساس ودليل دفع القيمة، غير أننا قلنا بالخروج عن الأصناف الواردة في الحديث إلى المال، وهم قالوا بالخروج عنها إلى غالب طعام أهل البلد.