الحكمة: 4

إذا كانت الهمم لا تخرق أسوار الأقدار، فالتدبير والاختيار والتخطيط لشؤون الحياة وضروراتها، كل ذلك مطلوب، ولكن وفق سنة العبودية، واستخارة علم الله، دون تعسف ولا تكلف، ولذا فالمؤمن يريح نفسه من التدبير الممقوت وهو ما كان على خوف من المستقبل وطمع بلا حدود، واهتمام زائد، يأخذ بالأسباب المطلوبة، ويعلم أن الخير كله فيما يختاره الله، ولذلك قال: “أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك”.
والتدبير على ثلاثة أقسام: مذموم ومطلوب ومباح.

فأما التدبير المذموم فهو التدبير المصاحب للتكلف والهمّ والجزم والتصميم من غير استخارة الله وطلب حوله وقوته، وهو منهي عنه لأنه يناقض حقيقة العبودية.
وأما التدبير المطلوب فهو التدبير في الواجبات والطاعات مع تفويض المشيئة والنظر في القدرة الإلهية، وهذا يسمى بالنية الصالحة، ونية المؤمن خير من عمله، يقول النبي ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَال” إِنّ الله كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ. ثُمّ بَيّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً”.

وأما التدبير المباح فهو التدبير في شؤون الدنيا والمعاش مع تفويض المشيئة لله تعالى وقدرته وعلمه وإرادته، وقوام العيش، كما قيل، حسن التقدير، ومِلاكهُ حسن التدبير، وروي عن أنس أن النبي ﷺ قال : “حسن التدبير نصف العيش” أخرجه القضاعي في مسند الشهاب
ولعل ابن عطاء الله يقصد بـ”التدبير” هذا النوع من التدبيرالمذموم، وهو سبب يؤدي إلى وجودَ التكديرِ، ومنازعة الحكمِة الإلهية والتقديرِ الرباني، يقول تعالى: “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ … } وقال أيضا ” : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ السجدة/5-6 .

وفي الحديث: عَن ابنِ عَباسٍ، قال: قال رَسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ العَبدَ يُشرِفَ عَلَى الحاجَةِ مِن حاجاتِ الدُّنيا فَيَذكُرُهُ اللَّهُ مِن فَوقِ سَبعِ سَماواتٍ، يَقُولُ: مَلائِكَتِي، إِنَّ عَبدِي هَذا قَد أَشرَفَ عَلَى حاجَةٍ مِن حَوائِجِ الدُّنيا فَإِن فَتَحتَها لَهُ فَتَحتُ لَهُ بابا مِنَ النارِ، ولَكِن أَرُدُّ بِها فَيُصبِحُ عاضًّا عَلَى أَنامِلِهِ يَقُولُ: مَن سَعَى؟ ومَن دَها لِي؟ ما هِيَ إِلاَّ رَحمَةٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِها»”، قال المُؤَلِّفُ: تفرد به صالح، قال الدارقطني: هو متروك.
قال داؤود – عليه السلام -: رب أي عبادك أبغض إليك؟ قال: عبد استخارني في أمر فاخترته له فلم يرض به..

ولا بد للمؤمن أن يعلم أن لله – تعالى -ألطافا خفية قلّما ينتبه إليها، يعتبرها الناس منعا وهي عين العطاء، ويظنونها محنة وهي منحة، فكم من رسوب أعقبه نجاح بامتياز، وكم من وجع كان سببا في اكتشاف مرض لو بقي مجهولا لكان خطرا على صاحبه، والخير فيما اختاره الله،
روى مسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ رضِيَ الله عنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ” الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ”
فالإنسان لو كنت يعلم حقيقة تدبير الله له، لازداد حباً فيه وشغفا به:

تـجـولت بالـفـكـر فـي هل أتى و قلت لقلبـي كفـاك الجليـل
يـدبـر امـري و لا عـلـم لــــي هو الله حسبي و نعم الوكيل

وأستحضر هنا قصة البطل العالمي في الملاكمة الأمريكي المسلم محمد علي كلاي حين وجّه له أحد الصحافيين سؤالا يقول فيه: هل عندك حراس شخصيون؟ فكان جوابه بلا تردد، نعم، لدي حارس شخصي واحد، هو يبصر بلا عيون، ويسمع بلا آذان، ويتذكر كل شيء دون مساعدة عقل أو ذاكرة، إذا أراد أن يخلق شيئا يقول له كن فيكون، أوامره لا ينقلها لسان أو تسمعها آذانـ يعلم الأسرار في أعماق خواطرنا، هو من يوقفهم، فمن يكون؟ هو الله، هو حارسي الشخصي، وحارسكم الشخصي، هو المتعالي الحكيم، ولا يمكنني أن ألومه في الحقيقة، لو كان لدي حارسشخصي لأخبرته أني لا أثق به، سأحترس منه وأصبح مرتابا، وأحترس من الناس، كلا فالله حارسي”.

قال القشيري بعد كلام في وجه اختصاص التدبير بالحق تعالى: لأنه لو لم تنفذ مشيئته واختياره لم يكن بوصف العِزِّ، لأن من نفى عن مراده لا يكون إلا ذليلاً، والاختيارُ للحق نعتُ عز، والاختيار للخلق صِفةُ نقصٍ، ونعتُ ملام وقصور، فاختيارُ العَبْدُ على غيرُ مُبَارَكٍ له، لأنه صفة غيرُ مستحِقٍّ لها، ومن اتصف بما لا يليق به افتضح. والطينةُ إذا ادَّعَت صفة للحقِّ أظهرت رعونتها، فما للمختار والاختيار؟! وما للمملوكِ والمِلْك؟! وما للعبيد في دَسْتِ الملوك؟! قال تعالى: { ما كان لهم الخيرة }.فإذا علمت، أيها العبد، أن الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، لم يبق لك مع الله اختيار، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك، ولذلك قيل: العارف لا يعارض ما حلّ به، فقراً كان أو غنى.

قال اللجائي في كتاب قطب العارفين: الراضي شبه ميت، لا نفس له، يختار لها، فالفقر والغنى حكمان من حكيم واحد، وهو أعلم سبحانه بعبيده، وما يصلحون به، فمنهم من يصلح للفقر ولا يصلح للغنى، ومنهم من يصلح للغنى ولا يصلح للفقر، ومنهم من يصلح بالمنع ولا يصلح بالعطاء، ومنهم من يصلح بالعطاء ولا يصلح بالمنع، ومنهم من يصلح بالبلاء ولا يصلح بالصحة، ومنهم من يصلح بالصحة ولا يصلح بالبلاء، ومنهم من يصلح بالوجهين جميعاً، وهو أعلى رُتبة يشار إليها في غاية هذا الشأن، { وربك يخلق ما يشاء ويختار… } الآية، ففي هذه الآية كفاية وتعزية لكل سالك راض عن الله تعالى، لكن لا يعقْلُها ولا يتلذذ بها إلا مشايخ العارفين.

الحكمة: 3

إذا كان مصطلح الهمّ يطلق على بداية الإرادة وأولها، فإن الهمة تطلق على مرحلة قوة الإرادة ومنتهاها، وتوصف بالعلوّ والسبق، كما توصف بالسفول والتخلف، وتعرّف الهمّة العالية بكونها عبارة عن استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وذلك حين يتوجه القلب ويقصد بكليته وجميع قواه الحسية والمعنوية جانب الحق والخير لحصول الكمال الممكن، غير أن همَّة الإنسان مهما علت، وقوةَ انبعاث قلبه مهما سمت، فإنهما لا يخرقان أسوار قضاء الله وقدره، ولا يكون شيء منهما في هذا الكون إلا بإرادة الله وقضائه، فهما يدوران مع القدر كيفما دار، لا حول لهما ولا قوة إلا بالعزيز القهار، «وكان الله على كل شيء مقتدرا» الكهف: 45

عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: « كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ» رواه مسلم وأحمد وابن حبان ومسلم والبيهقي، ومعنى ذلك أن اجتهادَ المرء أمرٌ مطلوب، ولكن هذا الأمر مهما بلغ من الإحكام والإتقان لازمٌ وعاجزٌ عن خرق ما جرت به الأقدار، ولا يمكنه أن يأتي بنتيجة إلا إذا تحقق العون من الله، وإلا كان اجتهاد الإنسان سببا في الجناية عليه وخيبته، قال أحدهم:

إِذا لمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتى +++ فأوَّلُ ما يَجْني عَلَيْهِ اجْتِهادُهُ

وقد خلَق اللهُ الخَلْقَ وهدَى الناسَ إلى مَعرِفَةِ الخيرِ والشرِّ، وأرسَل الرُّسُلَ مبشِّرين ومُنذِرين، وموضِّحين الحقَّ، وجَعَل الحِسابَ والجزاءُ في الآخِرَةِ دونَ ظُلمٍ لأحدٍ، وهو سبحانه يَعلمُ أزلًا أحوال الناسِ ومساراتهم ومصائرهم يوم القيامةِ، وفي هذا الحديثِ يقول عمرانُ بن حُصين رضي الله عنه: قال رجلٌ: «يا رسولَ الله، أَيُعْرَفُ أهلُ الجنَّةِ مِن أهلِ النَّارِ؟ »، فقال النبيُّ ﷺ: نَعَم، فقال الرَّجلُ: « فلِمَ يعملُ العامِلون؟! » ، فقال النبيُّ ﷺ: « كلٌّ يعملُ لِمَا خُلِق له» أو « لِمَا يُسِّرَ له» رواه البخاري

فكلُّ إنسانٍ يعملُ في الدُّنيا، وقد أعطاه اللهُ وسائلَ التَّميِيزِ بينَ الخيرِ والشرِّ، وبيَّن له طريقَ الحقِّ والباطلِ، فكلُّ إنسانٍ يختارُ مِن الأعمالِ ما يُرِيد، ويوصِّله يوم القيامة إلى المصيرِ المحتومِ الجنَّةِ أو النَّارِ، ولكنَّ النِّهايةَ مجهولة، والمآلَ مخفيٌّ عن النَّاسِ لحكمةٍ يَعلمُها اللهُ عزَّ وجلَّ.
وقد علم الله في الأزل ما سيخلقه من عباده، وعلم ما هم فاعلون، وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ، وخلقهم الله كما شاء، ومضى قدر الله فيهم، فعملوا على النحو الذي شاءه فيهم، وهدى مَن كتب الله له السعادة، وأضل مَن كتب عليه الشقاوة، وعلم أهل الجنة ويسرهم لعمل أهلها، وعلم أهل النار ويسرهم لعمل أهلها، قال تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ» الصافات:96، وقال: « وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» الصافات:52، وقال: «وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» فاطر:11، وقال: «مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» الأعراف:178، وقال: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» النحل: 125، وجاءت أحاديث كثيرة تواتر معناها على أن رب العباد علم ما العباد عاملون، وقدّر ذلك وقضاه وفرغ منه، وعلم ما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاء، وأخبرت مع ذلك كله أن القدر لا يمنع من العمل،« اعملوا فكل ميسر لما خلق له». رواه البخاري

فكل شيء سابق في علم الله، جرى به القلم قبل الخلق، واجتهاد الإنسان لا يمكنه أن يخالف ما جرى به القدر والقلم ، عَنْ عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ: « كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ الله ﷺ، فَقَالَ: « يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» رواه الترمذي.
ومن شأن الإيمان بهذه بما جاء في حكمة ابن عطاء الله هذه، أن تزرع في قلب المؤمن أمورا، نختصرها في أمور:

الأمر الأول: أهمية المسارعة إلى الخيرات، والعمل على طرق أبواب الرزق، والسير وفق سنن الله في الخلق، والسير في الأرض طلبا للأرزاق الحسية والمعنوية، يقول تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ » الملك: 15، فمن نعم الله على خلقه أن سخر لهم الأرض وما فيها، وذللها لهم، وهيأ فيها المنافع ومواضع الزروع والثمار، والإنسان مأمور بأن يمدّ يديه، ويتحرك برجليه، ويسافر في أقطارها ، ويتردد في أرجائها بأنواع المكاسب والتجارات، دون أن ينسى أن سعيه لا يجدي عليه شيئا ، إلا أن ييسره الله له، ولهذا قال: « وكلوا من رزقه » فالسعي في السبب لا ينافي التوكل كما قال الإمام أحمد، عن عمر بن الخطاب يقول: إنه سمع رسول الله ﷺ يقول : « لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا» رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن هبيرة وقال الترمذي : حسن صحيح .
ومحل الشاهد في الحديث أن النبي ﷺ أثبت للطير حركة وتفاعلا مع قوانين الله وسننه في الأرض، بالرواح والغدو لطلب الرزق ، مع توكلها على الله ، عز وجل ، وهو المسخر المسير المسبب، ولا تعارض بين الأمرين إلا في عقول أشباه المتدينين الجاهلين للسنن والقواعد.

والأمر الثاني: المستفاد من حكمة ابن عطاء الله، هو عدم اليأس والإحباط في حالة عدم النجاح في الوصول إلى المبتغى، والعمل المرتضى، باعتبار أن الهمة تبقى عاجزة عن تحدي الإرادة الالهية والأقدار الربانية، قال تعالى: « مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» الحديد: 22

والأمر الثالث: الذي نستخلصه من حكمة ابن عطاء الله يتعلق بأهمية غرس روح السكينة والتفاؤل في قلوب المؤمنين، وذلك بالدعوة إلى شدة التعلق بالله، والتوكل عليه، فالمؤمن كما أنه مطالب بالعمل والأخذ بأسباب العيش، فهو مأمور بأن يذعن لقانون الاختيار الإلهي، والحذر مهما كان سابقا فإنه لا يغني عن القدر، وبذلك يتحقق الأنس بالله، وتزول الوحشة.

الحكمة: 2

التجريد في اللغة معناه الإزالة، ويقصد به هنا ترك الأسباب الدنيوية، والخروج من أسباب الدنيا، وطلب العيش، و كل ما يشغل الجوارح عن طاعة الله، والابتعاد عن كل وصف يباعد عن مشاهدة الله ومحبته.
ومعنى الحكمة أن من آداب الإسلام ومن حكمة الإيمان، أن يرضى المؤمن بما اختاره الله له، يقول النبي ﷺ: “وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس”، وليس معنى هذا أن لا يأخذ الانسان بالأسباب، فالأخذ بها واجب، ولكن القلب متعلق باختيار الله، ” وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ” القصص: 68
فالمؤمن يقيم فيما أقامه الله، في عالم الجمال وعالم الجلال، في السراء والضراء، في المنشط والمكره، يعيش واقعه ويأخذ بأسباب الحياة، وهو موقن بالمشيئة الإلهية، والتدبير السابق في علم الله، يعلم أن الحق تعالى هو الذي ينقل من حال إلى حال، ” يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ” النور: 44
والذي يريد أن يُحدث في الوقت ما لا يمكن أن يَحدث فيه، هو في حقيقة الأمر يتمرد على الله، ويتدخل في ما لا يعنيه، ويسيئ الأدب مع ربه الفاعل المختار، وهذا عين الشهوة الخفية، والأنانية الذاتية، لأن النفس بذلك تقصد في الأصل الدعة والراحة، ولم يكن لها من اليقين ما تتحمل به مشاق الأخذ بالأسباب، وإنما كانت خفية لأن صاحبها يظهر الحق ويبطن الباطل، يظهر الترفع عن الدنيا والانقطاع عنها، وهو في الحقيقة يريد الراحة ويقصد الكسل والدعة، ومقام الإنسان حيث أقامه الله، فالاختيار اختيار الله.
فالله الذي يقول لنا: “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ” القصص (68)، هو نفسه الذي يقول لنا: ” هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” الملك: 15، ومعنى ذلك أن الأخذ بالأسباب إذن واجب، والاعتماد عليها خطأ كبير، وجهل عظيم، يقول رَسُوْل اللَّهِ ﷺ: “لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَاناً” رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَة.
فالمؤمن كالزارع يشق الأرض ويزرع البذر، وقلبه معلق بالسماء، ينتظر المطر، وحين تسقى الأرض يأخذ بكل الأسباب المشروعة، وينتظر الحصاد، يده تعمل وقلبه معلق بالفاعل على الحقيقة، المريد المختار سبحانه وتعالى.، وعلى أساس ذلك فالمؤمن لا يخرج مما أقامه الله فيه، إلا بعد أن يخرجه الله منه، فكما تولى الله إدخاله في الأمر، سيتولى إخراجه منه، لأنه سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأمر بولدها، قال تعالى: “لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون” الأنبياء (23)
يروى أن الإمام “البلخي” وهو من أهل العبادة والزهد، بعد أن درس على شيخه وأستاذه إبراهيم بن أدهم ودّعه لطلب الرزق والأخذ بأسباب العيش، وأثناء رحلته، في فيافي الصحراء رأى شيئا عجيبا: طائراً أعمى كسير الجناح، وقف بذهول يتأمل فيه، وخطر على باله سؤال واحد،  كيف يكسب هذا الطائر الأعمى الكسير رزقه في هذا المكان المنقطع ؟ ولم يمض وقت طويل حتى أدرك السرّ، لم يلبث طويلا حتى جاء طائر آخر، يحمل في منقاره وبين مخالبه طعاما، سد به جوعة صاحبه، وأطعمه كما تطعم الأم صغارها، حنانا وشفقة، تعجب شقيق .. من هذا المشهد وأثر فيه، فقال في نفسه: إذا كان الله تعالى يرزق هذا الطائر من غير حول منه ولا قوة ولم يهمله، فلماذا أذهب أنا إلى التجارة، ولماذا العناء والسفر؟!
وحينما رجع إلى أهله وعشيرته، وحين رآه شيخه سأله عن سرِّ رجوعه، فقص عليه شفيق البلخي قصة الطائر، وعبر له عن شدة تأثره، وقال: وماذا فهمت من القصة يا شفيق؟فقال: فهمت أن الرزق لا يأتي بالحيل ولا بالقوة، وإنما هو بإذن الله وحوله وقوته، ولذلك قررت الرجوع إلى أهلي، فقال له إبراهيم بن أدهم: سبحان الله يا شقيق!.. ولماذا رضيت لنفسك أن تكون كالطائر الأعمى العاجز الذي ينتظر عون غيره، ولم ترض أن تكون كالطائر الآخر الذي يسعى ويكدح، وينفع نفسه ومن حوله ؟! أما علمت أن النّبيّ ﷺ قال: “الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ” متّفقٌ عليه، وكثيرا ما كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة .
والخلاصة: أن الرضا بحكم الله واختياره من أعظم المقامات الدينية، وأجل الأوصاف الإيمانية، والمؤمن دائم الرضا عن الله، في حالة الابتلاء بالتجريد من الأسباب الدنيوية يرضى، وفي حالة الابتلاء بأسباب الدنيا ومسؤولياتها يرضى، فأمره بذلك عجيب، وفكره لبيب، قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ. رواه مسلم.

الحكمة: 1

.من أبرز الدلائل على اعتماد الإنسان في نيل المرغوب على عمله، نقصان رجائه عند الوقوع في الذنب، فالمؤمن لا يعول لنيل رضا الله على عمله الصالح، بل على لطف الله، صاحب التوفيق والفضل

قال رحمة الله عليه: مِنْ عَلامَةِ الاعْتِمادِ عَلى العَمَلِ، نُقْصانُ الرَّجاءِ عِنْدَ وُجودِ الزَّللِ.

ابتدأ ابن عطاء الله حكمه بهذه الحكمة؛ وفيها تأكيد على أهمية التوكل على الله المتأصلة في خطاب القرآن الكريم والسنة النبوية، فالنفس الإنسانية حينما يخونها التوفيق تأنس بالسبب وتتناسى المسبب، وتعتمد على المفعول وتتجاهل الفاعل حقيقة، والمؤمن اعتماده على ربه وخالقه، لا على نفسه وعمله، وحينما يقع الاعتماد على العمل فذلك دليل على انطماس الرؤية، وانحسار البصيرة، فما الدليل على الاعتماد على العمل يأتي الجواب من ابن عطاء الله ويقول: مِنْ عَلامَةِ الاعْتِمادِ عَلى العَمَلِ، نُقْصانُ الرَّجاءِ عِنْدَ وُجودِ الزَّلل.

والمعنى أن من علامات الاعتماد على العمل الإعجاب به، ونسيان رؤية المنة والتوفيق من الله ة فيما يجري الله لك من الطاعات، وينشأ عن ذلك التنقيص ممن لم يعمل بمثله، وازدراؤه، والمؤمن يعتمد على سابق علم الله ومدده دون علمه وحيله، ولو أنه لو عمل كل الطاعات وقام بكل الواجبات فإنه لا يرى لنفسه فضلا ولا مزية، قصر نظره، وعكف بنظره على امتثال أمر مولاه، دون الانبهار بحظ عاجل، أو جزاء آجل، قد خرج من ستار الحجاب عندما يتوهم أن صدور أعماله عنه أو كونه منه؛ فإذا نظر إلى ما يبرز منه في صورة طاعة علم أن ذلك نعمة من نعم الله، وعية من عطاياه، أنعم الله بها عليه كما أنعم بسابق هدايته ، وإيجاده من العدم، وإرسال أنبيائه وإنزال كتبه، وبسط أرضه ورفع سماواته، وتسخير موجوداته، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل:18].

فكن على كرم الـرحمن معتمــدا           لا تستند لا إلــى عــــلم ولا عمــل

ففضل ربــــك لا تمنعه معصية            ولا يضاف إلى الأغراض والعلل.

العيش مع الذات – الحلقة 7

○ سلسلة العيش مع الذات: [كيف نفهم ذواتنا ونحترم أنفسنا]
الحلقة 7 | زلة اللسان واللاشعور: أي علاقة ؟ | عبد الفتاح الفريسي
•◇• تؤكد مدرسة التحليل النفسي أن لا شيء يحدث بالصدفة في مجال الحياة والسلوك النفسي، فكل سلوك له أسبابه الحقيقية، ويسير لتحقيق غاية محددة.
ومن هذا المنطلق كان لمدرسة التحليل النفسي شأن كبير في تفسير زلات اللسان وهفوات الكلام، وهو أمر سبقها إليه تراثنا العربي الإسلامي، ففي سورة محمد: (وَلَوْ نَشَآءُ لَأَرَيْنَٰكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَٰهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ لْقَوْلِ ۚ واَللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَٰلَكُمْ)
وقال علي بن أبي طالب: “ ما أضمر المرء شيئا إلا وقد ظهر في فلتات لسانه وزلات كلامه ”
وقال الشاعر الجزار السرقسطي:
إِياكَ مِن زَلل اللِسان فَإِنَّما || عَقل الفَتى في لَفظِهِ المَسموع
وَالمَرء يَختبر الإِناء بِنَقره || لِيَرى الصَحيح بِهِ مِن المَصدوع
واحفظنا ونحن في الصغر المثل المشهور: ”ما أخفى الإنسان شيئا إلا وظهر في فلتات كلامه وزلات لسانه”.
وقد تتبعت المدارس الحديثة خصوصا تلك التي تعنى بعلم النفس والسلوك، العلاقة بين زلات اللسان واللاشعور، وذهبت مدرسة التحليل النفسي بريادة فرويد بأنه يمكن لأفعالنا اليوميـة العادية أن تجسد تعبيرا عن اتجاه لاشعوري دفين ومستتر، ومن هـذا المنطلـق سعت إلى تحليل سلسلة من الظواهر السلوكية التي يفترض بأنها تصدر من دائرة العمق اللاواعي، والتي تتقمص أحداثا يومية أو ردود فعل أو كلمات بسيطة لا يلقي لها المر بالا ولا يعيرها الناس أي اهتمام.
فهفـوات اللسان، حسب المدرسة الإسلامية ومدرسة التحليل النفسي، لا تعـبر عـن الطبقة العميقة في منطقة اللاشعور فقط، بل هي تعبير صادق عن الصراع النفسي الداخلي.
أقول هذا الكلام وانا أستحضر أية كريمة في سورة يوسف، حينما قال إخوته عنه وهم في حضرته وهم لا يعلمون:”إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، وأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم”، كنت دائما أتساءل عن سر هذه الكلمة العظيمة والسبة الجسيمة “فقد سرق أخ له من قبل” في حق “أخ غائب” من المفروض أن ترعى ذمته ولا تنتهك سمعته، ولكنها زلة اللسان تكشف المسستر، ويظهر المخفي، ولذلك اعقبها قوله تعالى على لسان يوسف: “قال أنتم شر مكانا”.
ومن الأمثلة الواقعية اليوم في بيان العلاقة بين زلات اللسان واللاشعور قصة بين صديقين، سأل أحدهما الآخر بعدما أصيب بمرض عضال يتطلب إجراء عملية جراحية مستعجلة:
متى عرفت بأنك مصاب بهذا الورم الخبيث؟
أجاب: منذ عام2001 قبل أن يستدرك: أقصد 2010
رد الصديق: ولكنك قلت 2001 ! هل عندك فكرة عما حدث في حياتك بالضبط سنة 2001.
أجاب الرجل بتأثر كبير: كنت عازما على أن لا اتحدث عن ذلك لأحد، فقد فقدت زوجتي حبيبتي التي لا أستطيع أن أصف لك مقدار حبي لها.
زلة اللسان أدخلت داخل جملة، كلمة ظهرت مكان اخرى، يمكنها أن توحي بإحساس سيء وغالبا بصراع داخل النفس، وهذا ما تطلق عليه مدرسة التحليل النفسي بعودة المقموع للظهور.
لا أنسى وانا اقرا سورة محمد حينما يخبر القرآن عن التركيبة النفسية للمنافقين (ولتعرفنهم في لحن القول)
○ الهفوات اللسانية:
أثناء هفوات اللسان وزلته تكون الغاية مرغوبة ولكنها مدفونة في عالم اللاشعور، يستبدل اللسان المدفونة كلمة أخرى غير مناسبة بالكلمة المطلوبة.
ويَعتبر الكثير من المتخصصين من العلماء والأطبّاء وعلماء النفس أنّ تفسيرات فرويد حول زلّات اللسان صحيحة ولا شكّ فيها، وأن لا شيء يَحدث بغير معنى، خصوصاً على الصعيد سلوك الإنسان، وأن لكلّ سلوك أسبابه وسياقاته، وفي المقابل، لم يتبنَّ آخَرون كلام المدرسة الفرويدية حول رغبات اللاشعور وزلّات اللسان. كما يرى علماء في مجال اللغة، أنّ الجميع يمكن أن يستعمل كلمةً بدل كلمة أخرى، ورفضوا بذلك الربط بين زلات اللسان واللاشعور، وأن ألفرد فرويد ومن معه تكلفوا كثيرا وأعطوا الأمر أكثر مما يستحق، لأنّ زلّة اللسان، في رأيهم، غلطة كأيّ غلطة يَرتكبها الإنسان خلال الكتابة مثلاً أو خلال حديثه مع أصدقائه. ويَعتبر هؤلاء زلّات اللسان أخطاء تُذكّر بأخطاء الطفل الصغير الذي يستعمل كلمةً بدل أخرى للتعبير عن حاجياته.
ما رأيكم أنتم في زلات اللسان هل هي مقصودة أو لا تدل على شيء ؟
رأيكم يهمنا !

العيش مع الذات – الحلقة 6

○ سلسلة العيش مع الذات: [كيف نفهم ذواتنا ونحترم أنفسنا]
الحلقة 6 | كيف نحبّ | عبد الفتاح الفريسي
•◇• ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال: (أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا ما، عسى أن يكون بَغِيضَكَ يومًا ما، وأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا ما عسى أن يكونَ حَبِيبَكَ يومًا ما) [1].
هذا الحديث أصل جليل في تعليم مبدإ الاعتدال في المشاعر، فالأصل في الإنسان السليم سلامة الصدر، وإخلاص المحبة وصفاء الود للناس، لكن اندفاع العواطف حباً وبغضاً إذا جاوز الحد فهو مذموم، فالشيء إذا جاوز حده، تحول إلى ضده، وقديما قالت العرب: ليس بعد البياض إلا البرص، وليس بعد التمام الا النقصان، والمثل المغربي يقول: (حد الحلاوة زبيبة).
كنت دائما أقول لأبنائي حفظهم الله: “سيأتي عليكم يوم تحبون فيه، والحب شيء جميل، لكن أوصيكم حين تحبون أن تحبوا برفق، وأوصيكم حين تكرهون أن تكرهوا باعتدال”.
في الصحيحين أن النبي ﷺ قال لعائشة: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله».
إننا حين نحب فإننا نتخيل فيمن نحب كل خصلة حميدة، وننظر اليه نظرة تقترب من الخيال، ننظر إليه وكأنه ملك يصيب ولا يخطئ، وكذلك حين نكره، فإننا نتخيل فيمن نكره كل خصلة ذميمة، وننظر اليه نظرة تقترب من الوبال، ننظر إليه وكأنه شيطان رجيم، لا خير فيه ولا شر إلا منه.
كثيرا ما يغيب عنا أن الناس مهما علا كعبهم في عالم الخير، ومهنا سفلوا في دركات الباطل، بشر كالبشر، تتجلى فيهم معاني الخير والشر، والصواب والخطأ، لهم ندوب وشقوق، ولهم إيجابيات وسلبيات، تماما كما هو الحال بالنسبة للقمر الشاهق المضيء، الذي نتغنى بمنظره، ونقع وتأسرنا صوره، وننسى أننا حين نحبه، فإننا نحب فيه جانبه المضيء، ولا ننتبه أن خلف هذا الوجه القمري المنير وجها آخر مظلما ضربنا الصفح عنه حينما أحببناه، وتغافلنا عن حقيقته حينما واليناه، وصدق الشاعر حينما قال:
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ |○| وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا
وبهذه المعاني يمكننا أن نحقق الانصهار الكامل، والتناغم الواعي الذي يكمل فيه أحدنا الآخر، من دون إلغاء ولا تجاوز.
إننا بحاجة لكي نحب الآخر بشكل واضح وصحيح، نحب الآخر كيف هو، وكما هو، ننظر إلى نوره، ونقبل على كسوفه، فالمحب حقيقة من يعظم الحسنة وينشرها، ويعذر الزلة ويسترها، وبهذا يتحقق التناغم في العلاقات بين المتحابين، يقول ابن عطاء الله السكندري: (ما صحبك إلا من صحبك وهو بعيبك عليم .. خيرُ من تصحب، من يطلبك لا لشيء يعود منك إليه).
لا بد من يوم يطلع فيه محبونا على عيوبنا، ولا بد من يوم نطلع فيه على عيوبهم، والمطلع على عيوب الآخرين عليه أن يتحلى بالرحمة والوعي، ومن اطلع على أسرار الناس وعيوبهم ولم يتعلق بالرحمة كان اطلاعه فتنة عليه وسببا في جر الوبال إليه
إننا في تدافعنا الطبيعي واحتكاكنا اليومي نعكس في الواقع حقائقنا في غيرنا، وتتفتق معادن الآخرين فينا، وهذا هو الانصهار الصعب بالمعنى الحقيقي للانصهار، كما هو معلوم في عالم الكيمياء، حيث تحوّل حياتنا عبر الاحتكاك والتدافع رصاص عزلتنا وفوضويتنا ليصبح معدنا نفيسا في تضامننا ووحدتنا، ويصبح لحياتنا معنى ولوجودنا مقصد.
لا بد إذن من أن نقبل على الناس بحب فيه اعتدال، نقبل منهم عدم الارتياح، ونتجاوز عن الاختلاف، نقبل منهم حين يعتذرون، ونسمع لهم بحضور حين يخاصمون، ونلتمس لهم ألف عذر، ونُقبل على من جاءنا من بعيد ليتحدث معنا بشجاعة وصراحة.
وختاما فالخير في الناس، مهما استقاموا، طبيعة، والشر فيهم مهنا عاشوا وديعة، والعاقل يستر الطبيعة ويقبل الوديعة، يقول جبران خليل جبران:
الخيرُ في النّاس مصنوعٌ إذا جُبروا |○| والشرُّ في الناسِ لا يَفنى وإن قُبروا
وختاما أن الرفق في الأمر كله هو الاعتدال، والأفراط في كل شيء أمر مقيت، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الرّفقَ لا يكونُ في شَيءٍ إلاّ زانَهُ، ولا يُنزعُ مِنْ شَيْءٍ إلا شانَهُ»، أخرجه مسلم.
————————————-
[1] رواه الترمذي والدار قطني، والحديث المذكور قد ضعفه كثير من أهل العلم، وبعضهم صححه، وبعضهم حسنه وبعضهم صححه موقوفاً على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال العجلوني: (وقد رمز السيوطي لحسنه، ولعله لاعتضاده، وإلا فقد تكلموا في كثير من رجاله.

العيش مع الذات – الحلقة 5

○ سلسلة العيش مع الذات: [كيف نفهم ذواتنا ونحترم أنفسنا]
الحلقة 5 | جدلية العطاء والأخذ | عبد الفتاح الفريسي
•◇• قالت هي: ” أحب أن آخذ فرصة أختلي فيها بنفسي، وأرتاح من نار الاستغلال، الذي يأخذ دون عطاء”، وقال هو: “لا أحصل منها على ما أريد، مع أنِّي أقدِّم إليها كلَّ ما أقدر عليه”، وقرر آخر: “أنا دائماً في حالة قلقٍ واضطراب، فلطالما أُستَغَّلُ من قبل من حولي، إلى أن أصبحتُ إنساناً أعيش أزمة ثقةٍ بالآخر”، وأكدت أخرى: “هل يمكن اعتبار موقفي أنانيٌّة بلا مشاعر لمجرَّد أنِّيَ قد اعتذرتُ عن نيتي في الاختلاء بنفسي”، وختمت هي قائلة: “يا له من قطاع خاص ووظيفة تستهلك الطاقة، يأخذ الرؤساء كلَّ شيءٍ منكَ ولا يعطونك شيئاً”.
يعكس هذ الحوار وأمثاله كثير، صراعا مجتمعيا يعالج بشدة مفهومي الأخذ والعطاء، يمكن أن نطرح ملخصها عبر سؤال هامٍ:
كيف نحقق آليةٌ العطاء دون أن نتحوَّل إلى ضحية نعطي ولا تأخذ؟
وكيف نستفيد من الأخذ دون أن نسقط في مفازة النرجسية المجتمعية والأنانيٍّة واستغلال الآخر؟
○ تعريف العطاء:
وقبل أن نجيب عن السؤال المطروح، نقترح أن نقرر بعجالة على أن العطاء يعني البذل في اتجاه الآخر ، وهو سلوك الإنسان المنسجم مع ذاته وقناعاته، والمحتفي بمشاعره؛ وهنا يأتي السؤال: “هل العطاء إيجابي الصِّبغَة دوماً؟ أم أنَّ السلبية قد تشوبه في بعض محطاته؟”.
ويترتَّب الجواب ذلك على الدوافع التي تتحكم في الفعل العطائي، والقناعات المُصاحِبة له، والمشاعر المُرافقة لمساره.
والفرق بين العطاء الايجابي والسلبي يكون بحسب الدوافع والانتظارات، والنية المصاحبة لهما ، و(إنما الأعمال بالنيات) كما في الحديث النبوي، ولا فدقيم لأي عمل إذا غاب المقصد الشريف، يقول ابن عطاء الله: صور قائمة وحقيقتها وجود الإخلاص فيها.
وعلى هذا الأساس نقول إن المعطي المستمتع بما يعمل، يفرح بعطيته، أكثر من فرح من يتلقى عطاياه، ويشكر لمن يقبل منه عطاياه وهدياه، قبل أن يتطلع الى كلمة شكر أو ثناء ومدح، (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا)، وبالتالي فلن يجد ثمار عطاءاته، ولن يُقدِّر أحد إنجازات ذاك الذي يعيش دور الضحية، ويقضي يومه في حالةٍ من الشكوى والتذمر من طلبات الاخرين والتزاماته تجاههم، فهو يعطِي ويقدم من وقتها وحسه ومعناه، ولكن بمشاعر سلبيةٍ وضيق نفس؛ ممَّا يجعله مستهلكا لقواه الحسية والمعنوية
○ جدليَّة العطاء والأخذ:
تتباين مذاهب أغلب الناس حول مفهومي العطاء والأخذ، وهم في ذلك على ثلاثة اقسام:
¤ قسم “العطاء أولاً” يتبنَّى مبدأ البذل والعطاء، ويتعمَّق في ذلك حتَّى يصل إلى درجة المعاناة بسبب إحساسه بأنه ضحية مذهبيته.
¤ وقسم”الأخذ أولاً” ينحاز إلى ثقافة الأخذ والاستقبال، في نرجسية وطعيان الانا،
¤ وقسم ثالث “الأخذ والعطاء” يجمع بين المذهبين، ويؤلف بين الطرفين، ويمثل حقيقة التوازن، يأخذ ويعطي، ويتقاسم مع الغير النعمة والنقمة والمباني والمعاني، بعيدا عن سيطرة الغلو في العطاء أو التطرف في الأخذ.
ويبقى السؤال الأهمُّ: “تُرى مَن الأقسام يستحق الاقتداء، ومن منهم هو احق بالاهتداء؟ وأي الفريقين أحق بالامن؟”.
○ العطاء المتوازن:
لا يتحقق العطاء المتوازن الواعي إلا عبر مجموعة من الأسس البانية وهي كما يلي:
• أولا- تقدير الذات: ويكون بأن نمنحها الأولويَّة في معاملتها والمشاعر المستحق ، فلا يوجد شيءٌ في العالم أهمُّ من ذاتك ونفسك، فلا يمكن للإنسان أن يعطي اذا حرم أقرب الأشياء اليه، نفسه التي بين جنبيه، ليكون العطاء صادرا عن حب وامتلاء، وليس عن قهر.
• ثانيا- النية الحسنة: فبها يكون العطاء مبنيا على أسس من المشاعر الإيجابية تحقق الفائدة والغرض المنشودين ويستقبل الطرف الآخر بكل تقدير.
• ثالثا- العطاء المناسب في المكان المناسب: بأن يكون في مكانه المستحق، بأن يكون في أهله المستحقين له، وإلا كان وسيلة تصنع معاني الإتكالية في الناس والسلبية واللامبالاة في المجتمع.
○ الأخذ المتوازن:
في القرآن وصف للفقراء من أهل الصُّفّة المتوازنين في أخذهم يقول فيهم الله تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يسألون الناس إلحافا)، فحينما يوازن العطاء يتوازن معه الأخذ، فالأخذ المعتدل هو النتيجة الطبيعية للعطاء المعتدل، وهنا يطرح السؤال: “متى يكون الأخذ متوازناً؟
إذا كان العطاء المتوازن يمثل حالة الكرم والسلام في الإرسال يستشعر صاحبه الثقة المطلقة بأنَّ ما يعطيه هو واجب تمليه عليه معاني الإنسانية والإيمان، وأنه سيعود عليه ما أنفق أضعافاً مُضاعفةً راحة نفس ورزق حسي ومعنويا ورضا وسعادة في القلب، فإن الأخذ بدوره يمثل حالة الكرم والسلام في الاستقبال، يفتح صاحبه قلبه لمن يمد إليه يديه، وهو يعلم أن المعطي ليس أولى بالكرم من الآخذ، وليس بين المعطي والأخذ أي تمايز، ولولا الثاني ما كان للأول أي قيمة.
روي عن ابن عباس أنه قال: ثَلَاثَةٌ لَا أُكَافِئُهُمْ: رَجُلٌ وَسَّعَ لِي فِي الْمَجْلِسِ لَا أَقْدِرُ أَنْ أُكَافِئَهُ وَلَوْ خَرَجْتُ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا أَمْلِكُ، وَالثَّانِي مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ بِالِاخْتِلَافِ إِلَيَّ فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُكَافِئَهُ وَلَوْ قَطَرْتُ لَهُ مِنْ دَمِي، وَالثَّالِثُ لَا أَقْدِرُ أُكَافِئُهُ حَتَّى يُكَافِئَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِّي مَنْ أَنْزَلَ بِي الْحَاجَةَ لَمْ يَجِدْ لَهَا مَوْضِعًا غَيْرِي ”
والشاهد أن المعطي أولى بالشكر من الآخذ، لأن الأخذ سبق المعطي في كرمه حينما أنزل حاجته بصاحبه، ولم يجد لها موضعا غيره، أحسن الظن به، ورأه أهلا لقضاء حاجته.
وفي الختام أضع بين يدي القارئ الكريم حكمة لابن عطاء الله السكندري تلخص آداب الأخذ المتزن من غير ذلة ولا استشراف نفس يقول فيها: (لا تمدن يدك إلى الأخذ من الخلائق إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك، فإذا كنت كذلك فخذ ما وافقك العلم).

العيش مع الذات – الحلقة 4

○ سلسلة العيش مع الذات: [كيف نفهم ذواتنا ونحترم أنفسنا]
الحلقة 4 | حلم الحياة | عبد الفتاح الفريسي
•◇• في القرآن الكريم يقول تعالى: (وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة الروم:19]
في خضم علاقة الحب والحنين، خصوصا حينما تصبح هذه العلاقة ناضجة متبادلة، يقتنع الطرفان بها، ويفرح العنصران لها. وحينما يكتمل هذا التقارب الروحي والعاطفي بالزواج المرضي، يقع لنا أن ندخل حلم الحياة مع من نحب، من اخترناه باستشارة، ونوينا العيش معه باسخارة .
حلم الحياة هذا يتأسس في العادة على مجموعة من التصورات والطموحات والرغبات التي نربطها بمستقبل، نشترك فيه مع الآخر الغريب الجديد، سواء أكان هو أو هي، الذي شغل بالنا وإحساسنا وفكرنا وقلبنا، من أحببناه، ووددنا ان نشارك معه مشروع الحياة في الزمن المتبقي من الحياة.
هذا الحلم يمكنه أن يكون امتلاك بيت صغير في مدينة بعيدة، نسكن فيه مع صغارنا، وقد يكون حلما نعمل فيه على توفير مال لشراء منزل صغير على شاطئ البحر، نقضي فيه عطلتنا الصيفية، أو نسافر بعيدا في رحلات حول العالم نتعرف من خلالها على الأنفس والآفاق، وعلى أمم ممن معنا
وكيفما كان ذلك الحلم، فإنه سيلخص اعتقادنا الجوهري ويقيننا القلبي، جزءا كبير من روح الأمل وعنصر الثقة اللذين وضعناهما في الآخر المحبوب، حمل كل واحد من المحبيْن الحب طويلا في سويداء قلبه، وتركه ينضج ويكبر ويستوي، عمل على تلميعه، وإعادة تلميعه، خلال ليالي شاهدات، وفي أوقات خالدات غير منتظرة، يستحضر المتعة والابتهاج ويستهدي بحادي الأرواح وهاتف بالمساء والصباح، بكل مودة ورحمة، ليتقاسم روحه وحياته وزمانه، هنا وهناك، مع هذا الآخر، الذي اعتقد فيه وأيقن بلا ريب أنه سيشاركه الأحساس ويتقاسم معه النظرة إلى الكون والحياة والإنسان، ويستقبله في قلبه وقالبه، يبادله بنفس الأحاسيس، ويشاركه الهواجيس، واستثمر صاحبنا حامل هذا الحلم الكثير من الأوهام في أحلامه يسعى إلى تحقيقها، حلم حياة يساعد على تجاوز الحاضر، يساهم في تقبل الصعوبات، وإقالة العقبات، واستشراف المستقبل وصناعة الحياة.
ولكن سرعان ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، تتصدع العلاقة وتذوب المودة، وتنمحي الرحمة، ويفرض الطلاق نفسه، ويحين الفراق، ينهي حلم الحياة مع الاخر، ويقتل معاني القلب الصريع، في عالم التصدع واللاعودة، تصدع وفراق، حنين وشوق لا يعرف معناه.
عندما يكون هذا هو الحال، فإنني أدعو الشخص الذي يجد نفسه على هذا النحو ، محروما من حلمه بالحياة المنسوب من جهة إلى خياله، إلى اتخاذ خطوة رمزية. وذلك بمطالبة الشريك الذي يغادر أو الذي غادر بالفعل أن يكون الفراق بالمعروف والإحسان، وأن يعيد له حلمه في الحياة من خلال شيء ما، يكون مرتبطًا بشكل رمزي بجانب أو شيء من حلم الحياة هذا.
لا شك أن التغاضي والتفهم والفراق بالمعروف يمكن أن يعيد للحياة بهجتها، والدنيا بهجتها، حينما يؤمن الإنسان أن الطلاق ليس نهاية الحياة، وليس شرا، فقد يكون فيه من الخير الشيء الكثير، وفي القرآن الكريم: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) وهو أمر يمكن للإنسان أن يصل إليه حينما يتحقق بالفهم والبصيرة،
فالله ربما يمتحننا بما صورته العطاء، وربما يكرمنا بما صورته البلاء، فليس كل عطاء خيرا، وليس كل منع شرا، يقول الحكيم ابن عطاء الله: (ربما أعطاك فمنعك، و ربما منعك فأعطاك، و متى فتح لك باب الفهم في المنع صار المنع عين العطاء)
وأذكر في هذا المقام، والشيء بالشيء يذكر قصة سيدة من معارفي فارقه زوجها وعانت الأمرين من ذلك، ولم تتمكن من تحقيق حلم إنجاب طفل مع طليقها، وحينما تزوجت مرة أخرى، لم تتمكن من إنجاب طفل على الرغم من كل المحاولات الطبية، واستمر الأمر على هذا الحال ست سنوات، كانت كلها مراجعات ومتابعات قضائية مع الطليق، وما يتبعها من القلق وشد الحبل، ولكنها في يوم من الايام وبعد تدخل احد العقلاء الحكماء قرر الطليقان السابقان اتخاذ خطوة رمزية، بتقبل الامر، والاعتذار والتسامح .. واستأنف حلم السيدة بالحياة ، والغريب أنه بعد شهر فقط من قرارها، حملت المرأة بمولود مع الزوج الجديد، كانت فرحتها كبيرة، لم تفهم ما حدث، لكن كان لديها انطباع بارتياح كبير عندما منحت طليقها ما يستحق من العفو والغفران والسلام، وأخرجت من قلبها كل معاني الكره والحقد والأنا، وهكذا يتغير الحال بتغير الإنسان، حين تنعكس المشاعر الإيجابية على حياة المرء وحياته.
يبدو لي، من خلال استعادة حلم الحياة بهذه الطريقة، أن المرء يمكنه أن يستعيد كل إبداعاته كما هي، ويمكنه أيضا التصالح مع جزء عميق من نفسه، والحب ليس امتلاك طرف لطرف، ولكنه علاقة تسمح لنا أن نحلم مع من نحب، بأحلام بعضنا البعض
-يتبع-

العيش مع الذات – الحلقة 3

سلسلة العيش مع الذات ¤ كيف نفهم ونحترم أنفسنا
الحلقة 3 | الحاجة قبل الرغبة | عبد الفتاح الفريسي
•◇• في ترتيب الأولويات نجد الحاجة تسبق الرغبة، تولد قبلها، ومن خلال إشباع حاجاتنا الأساسية من مطعم ودفء وحماية يمكن المحافظة على بقائنا، والإلحاح الفطري لكل واحد من بني الإنسان يكمن في الاستجابة المناسبة والمكيفة لاحتياجاتنا الحيوية التي نخصص لها أوقاتنا وحيزا كبيرا من حياتنا، تأتي بعد ذلك الرغبة لتشتعل بسرعة حينما يتم استرضاء المطالب التي يفرضها البقاء وقانون الحياة.
الرغبة تبرز من النقص والاحتياج، من الفراغ، من العدم، وتبرز بعد ذلك من الجاذبية، من حركة تدفعنا، تقودنا وأحيانا تدفعنا إلى الآخر. نحو آخر الذي يملك ما لا نملك، يملك نورا يضيء كياننا، يفكر بطريقة توازي طريقتنا، وذبذبة تنسم مع ذبذبتنا.
الرغبة قوة دفع تبحث عن طاقة مفقودة، إنها كانفجار داخل النفس قبل أن تكون انفجارا خارجها، بدونها يكون الكائن الحي أقرب إلى الميت، الذي لهم قلب لا يعقل به، وأذن لا يسمع بها، وعين لا يبصر بها، لا حركة له ولا سكون، مفعول به وليسوا فاعلا، خمول ولا نبض، فاقد لكل رغبة.
أحيانا تتحكم فينا رغباتنا في سد احتياجاتنا والاستجابة لحالاتنا الطارئة، ونستجيب لدوافعها القوية، القادرة القاهرة، التي تطمس كل شيء يقف في وجهها.
غير أنه وفي بعض الأحيان تنفرنا بعض رغباتنا، وتتحكم فينا، في آن واحد، وفي مفارقة عجيبة، ونعمل على خدمة جهة ما مخاطرين بالتضحية باحتياجاتنا العميقة، التي تستحق أن يكون لها أولوية قي حياتنا، في الوقت الذي يجب أن تكون هي في خدمتنا، وفي جاهزية للسعي إلى تحقيق إمكانياتنا، وإنجاز احتياجاتنا.
بعض علاقات الصداقة والمحبة بين الناس تتأسس حول مبدإ الحاجة، ومع ذلك يمكنها أن تعيش طويلا، في تناغم وسلام تام من علاقات أخرى، قد تتأسس على النقيض من ذلك، على أساس الرغبة فقط، وهي بذلك تختار طريقا فوضويا، أكثر عشوائية وأكثر خطورة.
قد يحدث ايضا أن احتياجا يأخذ صورة رغبة ينتظر منها التحقق في الواقع، وقد رأيت كثيرا من صور الرغبات هي في الأصل تعبير عن حاجة دفينة في نفس صاحبها، ومن ذلك أن أحدهم يحكي أنه رأى في محل تجاري يعرض قطعا أثرية ومصنوعات ذات قيمة للبيع، وبالصدفة اطلع على قطعة أثرية عبارة عن خنجر مصنوع بمعدن بديع، وطريقة في النقش باهرة، والغريب أن صاحبنا هذا قليلا ما يمر بالشارع الذي يوجد فيه المحل، ورعان ما انتبه الرجل إلى كون المحل التجاري مغلقا، وحاول في الأيام اللاحقة ولمرات عديدة الاتصال بالمحل ليقتني الخنجر دون كلل ولا ملل، وفي يوم من الايام، أحس الرجل بشيء غريب في نفسه يدفعه إلى شراء الخنجر، وكم كانت فرحته عارمة حينما وجد في يوم ما المحل مفتوحا، غير انها كانت فرحة غير مكتملة، فقد اختفت البضاعة من على رفوف السلع المعروضة، وبغير تردد سأل الرجل عن السبب وراء ذلك، فأخبره بأنه حصل وعد ببيع القطعة إلى رجل ابدى رغبة فيها، وطلب أجلا لا يتعدى اسبوعا.
وبعد أسبوع تمكن صاحبنا من شراء السلعة، واقتناء الخنجر بعد أن امتنع مشتريه الأول عن شرائه.
ولم تنته القصة هنا، فالأمر الغريب أن صاحبنا وبعد عشر سنوات اكتشف حينما أراد تغيير القيامة بصيانة الخنجر وصل معدنه، أنه كان في ملكية جده، علم ذلك من خلال وجود اسم الجد في طرف داخل قطعة معدنية داخلية، وحينما سأل صاحبنا والده عن ذلك أجابه بأن القطعة ماكانت لأبيه باعها حينما إصابته ضائقة مالية
فعن طريق رغبته الملحة استطاع الرجل أن يصل إلى القطعة ذات القيمة، ومن خلالها استطاع أن يستجيب لحاجة قوية في نفسه في التواصل مع أصوله.
ولا أحب أن افترق الا على حكمة تقول: (سواء كنت قريبا او بعيدا سأعيش دائما في أفراح رغباتي، أعرفك بكونك حيا .. وهذا يكفيني)

العيش مع الذات – الحلقة 2

العيش مع الذات:
كيف نفهم أنفسنا؟ ونحترم ذواتنا

العدد: 2 | الخوف والرغبة | عبد الفتاح الفريسي
قلما نكتشف أن وراء كل خوف نعيشه في حياتنا رغبة شديدة غائرة تناسبه قوة، وتواتيه مقدارا، هذا التأكيد القاطع والمبسط، إلى حد ما، يمكنه إرباك الكثيرين، وهو إرباك يمكنه أن يتلاشى بمجرد أخذ الوقت الكافي للاستماع إلى ما يخفى وراء غابة معظم مخاوفنا، وسنتوصل بلا شك إلى حقيقة مفادها أن العديد من رغباتنا تعمل في أعماقنا بقوة ناعمة، وهي مع ذلك كله لا تجرؤ على التعبير عن نفسها بشكل واضح، أو تحديد حقيقتها كما ينبغي.
فإذا كان أحدهم مثلا خائفًا من أن يصاب بمرض عضال كالسرطان، أو الكوفيد 19 ، فمعنى ذلك أنه يحرص على أن يعيش قريبا ممن يحب، ويرغب في أن يبقى دوما قريبا منهم.
وإذا كان يخشى من أن يفارقه من محبوبه، فهذا بالتأكيد تعبير على مدى ارتياحه للمحبوب ويريد أن يستمر في حبه والقرب منه.
وإذا كان خائفًا أن يطرده مدير عمله من وظيفته، فلربما يكون ذلك بسبب رغبته في المحافظة على مصدر رزقه وسبب راحته.
هذه الأمثلة القليلة كافية للدلالة على أن الاعتراف برغبة المرء التي توجد في اعماقه والتعبير عنها هو أكثر ديناميكية من أن يترك نفسه مسجونا في مخاوفه، يجترها ويفرضها باستمرار على نفسه وعلى من حوله.
وقد يوجد العديد من المخاوف في أعماقنا لا ينتبه إليها أحد، مخاوف ليست في حقيقتها إلا أقنعة لمخاوف أخرى هي أشد وأقوى، وهي تعبير بطرف خفي عن رغبات أكثر عمقا وأشد انتشارا وتناقضا في نفس الوقت، يجد المرء صعوبة في مقاومتها، ووضع حد لها ولجبروتها، والاعتراف بها.
فالخوف من الظلام مثلا قد يكون في حقيقته خوفا من تخيلات نتخيلها، وأمور نتصورها، تبرز لنا أكثر في عالم الظلمة، فعند بعض الأطفال يخفي الخوف من الظلام الرغبة في النوم في أحضان الوالدين، والاطمئنان إلى محيطهما، والخوف من اللصوص عند المراهقين يمكنه أن يرتبط بالقلق من الضياع والحاجة إلى الحنان.
¤ وختاما لا بد من القول بناء على ما سبق إني أعتقد أننا مطالبون اليوم أن ننصت بكل وعي إلى دواخلنا، ونتتبع رغباتنا الدفينة المختفية وراء المخاوف الظاهرة، وأن نمتلك الجرأة على احترامها، وتفهم غاياتها ومقاصدها، ونتعايش مع تحدياتها ومطالبها وهِناتها، وحينئذ إن لم يستطع المرء التكيف مع رغبات الآخر، والقدرة على الحضور في عالمها، وإحدات ما يمكن من التفاعل ، فإنه ينجح في التعبير بصدق على التكيف الطبيعي مع إمكانيات ذاته.
ونختم هذه الحلقة بالحكمة التي تقول: (عندما لا تتمكن من التكيف مع رغبات الأخر، فإنك تتكيف في الحقيقة مع إمكانياتك الخاصة).
–يتبع –