الكتاتيب القرآنية

كتاب الكتاتيب القرآنية الآليات الأهداف الآفاق عبارة عن مؤلف جماعي لخص أشغال الندوة التي نظمتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط خلال الفترة من 23 إلى 25 ماي 2006 شارك فيها الدكتور عبد الفتاح الفريسي بحضور ثلة من العلماء والفقهاء والباحثين من المغرب وموريتانيا والسينغال ببحث تحت عنوان: الكتاتيب القرآنية الواقع والآفاق تطرق فيه إلى واقع الكتاتيب القرآنية بالمغرب، وأهم التحديات التي تعاني منها، مع ذكر بعض الآليات والحلول التي يراها الدكتر الفريسي كفيلة للنهوض بمستوى التعليم الديني الأولي.

تطرق الجزء الأول من الكتاب إلى واقع الكتاتيب وآفاقها من خلال ثلاثة محاور: الكتاتيب القرآنية: واقع وآفاق، مناهج وطرق التدريس بالكتاتيب القرآنية، وخصوصيات الكتاتيب القرآنية حسب المناطق.

أما الجزء الثاني من الكتاب، فتطرق إلى الرواية المتواترة وآليات الرسم والضبط والقراءة، من خلال ثلاثة محاور: الكتاب القرآني والرواية المتواترة فيه وتطبيقاتها بالوقف الهبطي، والآليات المساعدة لحفظ القرآن الكريم وضبط الرسم العثماني، والمنهج المغربي في ضبط الرسم والقراءة.

تقريب البارع في قراءة الإمام نافع

كتاب تقريب البارع هو شرح لأرجوزة الإمام ابن آجروم الصنهاجي «تـ: 723ه» المعروفة بـ«البارع في أصل مقرإ الإمام نافع»، ضمّنها صاحبها، قراءة البدر الأول من البدور السبعة نافع المدني، وتتبّع فيها ما خالف فيه أبو سعيد عثمان بن سعيد الملقب بـ«ورش» عيسى بن مينا الملقب بـ«قالون»، معتمدا في ذلك طريق إمام القراءات أبي عمرو الداني «تـ:444ه» واختياراته، وقد عمل الشارح على تقريب الكتاب وما جاء فيه من اختيارات قرائية لابن آجروم، أصولا وفرشا، كل ذلك مع الاختصار في العبارة، وقلة التطويل في الإشارة، المنظومة.

وقد قسم الدكتور الفريسي مؤلفه إلى قسمين كبيرين :

1. قسم الدراسة: خصصه المؤلف للحديث عن عصر ابن آجروم والظروف السياسية والثقافية المرتبطة به، كما تعرض فيه لحياة الإمام ابن آجروم ومسيرته وسيرته.

2. قسم الشرح: وتطرق فيه الفريسي إلى شرح النظم وبيان معانيه بطريقة فريدة تعتمد أربع خطوات:

  • بين يدي الباب: يعتبر مقدمة بسط فيها الشارح ما سيأتي في الباب من مسائل قرائية وقضايا تجويدية
  • تقريب المعاني: وهو شرح لأبيات الباب وتعليق على ما فيها
  • خلاصة الباب: عمل فيها الشارح على تلخيص قضايا الباب
  • الخطاطة: وهي عبارة عن خريطة ذهنية وخطاطة بيانية تلخص ما جاء في الباب.

تشنيف السامع

يُعتبر كتاب تشنيف السامع للإمام امحمد بن محمد الخصاصي المتوفي عام  1354 هـ (1935م)، رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته من الشروح المغربية لنظم الدرر اللوامع في مقرإ الإمام نافع للإمام أبي الحسن علي الشهير بابن بري التازي المتوفي عام 730 هـ ؛ إذ أن مؤلِّفَه رحمه الله لم يدَع شاذّة في فنّه إلا أتى بها، ولا فاذّة فيه إلا عرَّج عليها. وقد بيَّن المؤلفُ أنه ذهب في هذا الشرح لتبيين ألفاظه، وإيضاح معانيه، باذلاً جهدَه في تقرير مسائله، وتحرير عباراته.

قال رحمه الل في مقدمة شرحه: “اهتممت أن أجعل شرحا على الدرر اللوامع لعلني أن يأخد الله بيدي، ويذخلني في سلك القراء أهل الآداء ولم بتيسر ذلك لي حتى كنت في جوار سيدنا ومولانا عبد العزيز أدام الله عزه وعلاه، وأسأله سبحانه أن يحفظه ويرعاه وها أنا شرعت في شرحه، مستمدا من الله العون على تحصيله لي وللمبتدئين مثلي، ولها شـروح كثيرة، منها الموجز ومنها المطول، ووجدت شرح أبي السعادة سيدي مسعود جموع كثير الأنفال، فجعلت ألتقط أنواره وأزهاره كي ما يفيد متعا طيبة والقصر والنظارة، وسميته تشنيف المسامع على الدرر اللوامع والله أرجوا أن يجعله خالصا لوجهه الكريم إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير”.

وقد عمل الأستاذ الدكتور عبد الفتاح الفريسي على دراسة وتحقيق كتاب تشنيف السامع للإمام امحمد بن محمد الخصاصي.

مشارق الأنوار

يدخل كتاب مشارق الأنوار للدكتور عبد الفتاح الفريسي في مجال فقه التزكية وهو أساس الفقه القلبي والسير إلى الله تعالى، والذي يقوم على أساسه تدين المسلم وإيمانه، وقد اشتمل الكتاب على فقه الدعاء من القرآن الكريم والسنة الصحيحة وعيون الشعر.

فبعد أن تطرق الدكتور عبد الفتاح الفريسي إلى الدعاء وشروطه، استعرض الأدعية الواردة في القرآن الكريم، ثم انتقل إلى الأدعية النبوية الصحيحة حسب الأحوال والمناسبات، ثم استعرض المؤلف مجموعة من عيون الشعر عبر قصائد شعرية في الدعاء والتوسل إلى الله.

نظم الأقنوم في مبادئ العلوم (دراسة وتحقيق)

عمل الدكتور عبد الفتاح الفريسي على تحقيق الأبواب المتعلقة بعلوم القرآن الكريم من نظم (الاقنوم في مبادئ العلوم) للعلامة عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي (ت: 1096 هجري.

ونظم عبد الرحمن الفاسي موسوعة، فاقن أبياته 12000 بيتا، نظم فيها الفاسي 281 علما، اصولها وفروعها، كالعقائد، والتوحيد، والتفسير، والحديث، وأصول الفقه، والفرائض، والنحو، والتصريف، والخط، وقد عمل الدكتور عبد الفتاح الفريسي على تحقيقه عبر أقسام تجمع فنونا خاصة، ابتدأ منها بعلوم القرآن الكريم.

1. الدراسة
2. مقدمة النظم
3. علم التفسير
4. علم القراءات
5. الرسم
6. الضبط
7. التجويد
8. الوقف والابتداء
9. أسرار الرسم
10. قراءة العشر

حِكم ابن عطاء الله: تعريف وتنويه

قيَّض الله تعالى من يجدد الحكمة في روح الأمة الإنسانية، وينشر معالم الخير فيها، ويعمل على بناء معاني الخشية والفهم الصحيح فيها، ويجدد لها أمر الأخلاق والدين فيها، وعلى رأس أولئك المجددين الأنبياءُ والمرسلون، ومن سار على دربهم من الصالحين والمصلحين، والمربين الموجهين، في كل وقت وحين، وإن من أجل هؤلاء نجد الإمام ابن عطاء الله السكندري، الذي ألف نخبة من الحِكَم والوصايا والدرر العطايا.
وحِكَم ابن عطاء الله هي عصارة تجربة روحية، وسياحة فكرية في عالم القرآن الكريم والسنة النبوية، وتجارب السلف الصالح، وتتعلق بمعلمين كبيرين من معالم الدين وهما العقيدة والأخلاق، وهما معلمان يشترك فيهما كل الرسالات والأنبياء، وتجمع بين مختلف الملل والنحل، بخلاف الشرائع الفقهية، فإن لكل أمة فروعها وشرائعها، قال تعالى: ” لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا” [المائدة: 48]
وقد جمع ابنُ عطاء الله تلك الحِكَم لتكون زاداً يعين على فهم روح القرآن الكريم، واستبصار مبانيه ومعانيه، وأبدع رحمه الله التصنيف في أحوال ذلك، وجمع فيها بين العبارة المعبرة، والإشارة المشعرة، بين العلم الذي يبصِّرُ المؤمن ويهديه، والأنفاس التي تدفعه وترقيه، تبني الروح والوجدان، وتورث الحركة إلى المعالي والعرفان، وتعين على السير في مفازات الميدان، يعرف ذلك من نظر وتأمل فيها، واعتنى بمبانيها، واجتهد في الوقوف على معانيها.
1. ولادة ابن عطاء الله ونشأته:
ولد الإمام ابن عطاء الله شيخ الإسلام تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي بالقاهرة عام (658هـ) وتعلم منذ نعومة أظافره العلومَ الدينيةَ والشرعيةَ واللغويةَ، وتميزت رحلته العلمية بميزة تتمثل في الجمع بين علوم الشريعة وفقه التربية والسلوك، حيث أخذ عن الإمام أبي العبس المرسي والذي أخذ بدوره عن الإمام أبي الحسن الشاذلي عن الإمامين مغربيين كبيرين في علم التصوف السني والسلوك والتربية وأعني بذلك الإمام عبد السلام بن مشيش دفين جبل العلم بتطوان المغربية، والإمام محمد بن حرازم دفين فاس بالمغرب، وبهذا السند المتصل إلى إمام المدرسة العرفانية الشيخ أبي القاسم الجنيد استطاع الإمام ابن عطاء أن يكون أَحد فقهاء عصره الجامعين بين فقه القالب والقالب، والروح والجسد، والشريعة والحقيقة، والمباني والمعاني.
وبعد عمر قضاه في خدمة العلم والشريعة والسلوك، توفي ابن عطاء الله السكندري تاركا ورائه العديد من الكتب والحكم عام تسع وسبعمائة (709 هـ) في القاهرة.
2. مؤلفات ابن عطاء الله:
ألف ابن عطاء الله العديد من المؤلفات، منها كتاب ( التنوير في إسقاط التدبير )، وكتاب ( لطائف المنن )، وكتاب ( مفتاح الفلاح ) وكتاب ( تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس ) وكتاب ( الحكم العطائية )، وهو موضوع مؤلفنا وحديثنا، ويمكن اعتباره أشهر ما وصلنا من مؤلفات ابن عطاء الله ومصنفاته، وقد كتب الله له القبول والانتشار، حتى ترجم إلى العديد من اللغات العالمية، ولا يزال يُدرس في بعض المعاهد والمراكز شرقا وغربا.
وحكم ابن عطاء الله عبارة عن مجموعة من الحكم والأقوال البليغة، تبلغ 264 حكمة، تعكس خبرة علمية، نعتبرها عصارة فهم دقيق لمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وأحوال السلف وما ذهب إليه جماعة المسلمين في العقيدة والدين والتربية والسلوك.
وقد تصدى العلماء قديما وحديثا لحكم ابن عطاء الله بالشرح والتعليق والبيان، وألفوا في ذلك مؤلفات عديدة، ومن بينها:
1- (غيث المواهب العلية بشرح الحكم العطائية) للإمام أبي عبد الله محمد بن إبراهيم النفري الحميري الرندي الأندلسي ، المعروف بابن عَباَّد النفَّري (733 -792 هـ)
2- (شرح حكم ابن عطاء الله) للإمام أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البُرنسي زروق الإمام أحمد زرّوق (846 – 899هـ)، وشرحه هذا من أحسن الشروح، وله كذلك شروح أخرى على الحكم ذكرها في مقدمة كتابه أنها بلغت 16 شرحا
3- (شقائق الأكم بدقائق الحكم) للإمام الفقيه المؤرخ رضى الدين محمد بن إبراهيم بن يوسف الحنفي الحلبي القادري التادفي المعروف بابن الحنبلي 908 – 971هـ
4- (إيقاظ الهمم في شرح الحكم) للإمام العارف الشهير شيخ الإسلام أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني الأنجري 1160– 1224هـ، راعى في شرحه التوسط بين المعنى وتحقيق المبنى
5- (الملتزم الجامع لمعاني الحكم) للإمام محمد الطيب بن عبد المجيد بن عبد السلام بن كيران المالكي الفاسي 1172 – 1227هـ، منه نسخ خطية في مكتبات فاس والرباط،
6- (تلخيص الحِكَم ) للشيخ نور الدين بن عبد الجبار بن نوري بن أبي بكر بن زين العابدين ابن شمدين الحسيني البريفكاني النقشبندي 1207 – 1268هـ، وهو شرح منظوم لحكم ابن عطاء الله، نظم في كل حكمة نظما لطيفا ميسرا للحفظ،
7- (الغيث المنسجم في شرح الحكم) للإمام أبي بكر بن محمد بن عبد الله البناني الرباطي ت 1284هـ،
8- (شرح الحكم العطائية ) للشيخ عبد المجيد الشرنوبي المالكي.
9- (المنهج الأتم في تبويب الحكم) للإمام المحدث علاء الدين علي بن حسام الدين عبد الملك بن قاضي خان القادري الشاذلي المعروف بالمتقي الهندي، بدأه بباب العلم، ثم باب التوبة، ثم باب الإخلاص في العمل، باب في الصلاة، باب العزلة والخمول، باب في رعاية الوقت واغتنامه، باب الذكر، باب الفكرة، باب الزهد وفضيلته… وهكذا. (30) باباً.. ثم المناجاة.
10- (الحكم العطائية شرح وتحليل) للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وغيرها من المؤلفات.
وقد كنا اشتغلنا على حكم ابن عطاء الله مرارا عديدة في خطبنا ومواعظنا وبرامجنا الإعلامية ورأينا فيها تأثيرا عجيبا على النفوس، وإقبالا منقطع النظير من لدن الناس، وها نحن الآن نستجمع القوة، ونتوكل على الله، ونجمع تلك الجهود في ملخص واحد، نرجو الله أن يكون نفعه عاما، وأن يجعله رحمة لكاتبه وقارئه، وبركة في البلاد وعلى العباد، وأن يرزقه القبول، وينفع به، والله من وراء القصد، والقادر عليه.
ونحن، مع ذلك، على يقين أننا لا نروم استيفاء جميع ما اشتملت عليه هذه الحكم العطائية، وما تضمنته من المعاني والمفاهيم، فهي كما قال بعض شراحها منطوية على أسرار مصونة، وجواهر حكم مكنونة، لا يكشفها إلا صاحبها، ولا تتبين حقائقها إلا من خلاله، ونحن في هذه الحلقات التي نوردها، والمناحي التي نعتمدها، غير مدَّعين شرحا لكلام ابن عطاء، ولا أن ما سنذكره هو حقيقة مذهبه، ولكننا نجتهد في تقريب المعاني الكبرى والمفاهيم العظمى بأيسر عبارة، وأقرب إشارة، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، فإن وافقنا فيه حقيقة الأمر، كان ذلك من النعم التي لا نحصي لها شكرًا، وإن خالفنا ذلك، أحلناه على نقصنا وجهلنا.

تلاميذ العلماء جزء من عملهم، وثروة لا تقدر بثمن

ما يقوم به المربون والأساتذة والعلماء من مهام في خدمة العلم والمعربية و تربية الأجيال وغرس بذور الخير في نفس الطلبة، والتلاميذ رعاية وعناية، هذه البذور ثروة لا تقدر بثمن،  تنمو وتنمو لتؤتي أكلها في خدمة الناس والمجتمع ولو بعد حين، كما يأمل عدد كبير من الأساتذة وهم يتعاملون مع طلبتهم، ويرووهم معاني الأصل وفوائد العصر، ويغمرونهم بالحب والوداد ليروهم نماذج تحتذى، ناجحين في حالهم ومآلهم.

وقد أمضى الدكتر عبد الفتاح الفريسي سنوات طويلة في التربية والتعليم، وراكم تجربة خلدتها ذكريات جمعته مع طلبة من كل الأعمار، ولا يملك المتابع لمسيرة الشيخ إلا أن يشعر بالفخر والاعتزاز الضمخين بحمد الله وشكره وعنايته وتوفيقه، ويتجدد هذا الإحساس كلما لمح المتابع إطارا عاليا ما في ميدان من ميادين نفع الناس، إماما خطيبا،  ، أو معالجا طبيبا ، أ مهندسا خبيرا، أو أميرا محنكا، وقد كان بالأمس القريب تلميذا يافعا، وأما عمن أخذ عنه من السيدات والآنسات الفضيليات فلا حصر لهن، في دار القرآن عبد الحميد احساين حينما كان مدرّسا بها، وفي مؤسسة  البشير للتعليم العتيق ومعهد الريفي للدراسات القرآنية حينما كان مديرا عاما بهما.

ومن معالم العناية الربانية التي أولى الله بها الدكتر الفريسي أنه حُبب إليه التعليم وهو في حداثة سن وريعان شبابه، حيث تطوع لمراجعة الدروس والمقررات التعليمية لزملائه في الإعدادية والثانوية، كما تطوع لتدريس القرآن الكريم وقواعد التجويد في المساجد ودور الشباب بحي التقدم بمدينة الرباط، وبطلب من بعض الأسر كان الفريسي لا يتأخر عن تدريس وتعليم أبنائها وتلقينهم.

وفي الجامعة كان الدكتور عبد الفتاح الفريسي ينوب عن شيوخه، وهو طالب علم، في إعادة ومراجعة الدروس العلمية التي كانوا يقدمونها برحاب جامعة محمد الخامس بالرباط ودار الحديث الحسنية بالرباط، ونستحضر هنا العطف الأبوي الكبير الذي كان الشيخ الدكتور التهامي الراجي الهاشمي يخص به الشيخ الفريسي، فقد كان يعول عليه كثيرا في شرح المسائل القرائية، وتبسيط القواعد العلمية، ويقول لطلبته: “اسألوا الفريسي عن ما غاب عنكم”.

وتلاميذ الفريسي طبقات، منهم المبتدئ والمنتهي، ومنهم المتقدم والمتأخر، ومنهم الذكر والأنثى، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نحصر عددهم، ولا أن نرصد أشخاصهم، ويكفي من أراد ذلك أن يراجع سير العلماء الشباب والخطباء والقراء المتقدمين والمجودين والمهتمين.

الحكمة في المنظور الإسلامي

قد قال تعالى: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” البقرة 269، قال أبو جعفر الطبري: يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيرا كثيرا، وقال جمهور المفسرين: الحكمة فهم القرآن والفقه به، وقيل هي النبوة، وقيل الخشية، إلى غير ذلك من الأقوال، ولا تعارض بين ذلك كله، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك ، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره ، فهما خاشيا لله : فقيها عالما، وكانت النبوة من أقسامه؛ لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور، والنبوة بعض معاني الحكمة، ومعنى الآية: إن الله يؤتي الصواب في القول والفعل لمن يشاء، ومن أحب من خلقه، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا، وقد ورد في القرآن الكريم، أن الحكمة عطية ربانية ومحة إلهية، يوتيها الله لمن شاء من عباده، من الأنبياء والصالحين.

والحكمة في اللغة: اللجام الذي يوضع في فم الفرس، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يمنعه الفرس من الجماح والجري الشَّديد، ويذلِّل الدَّابَّة لراكبها[1]، ومن هذا المعنى اشتقت كلمة “الحِكْمَة”، وهي تعني معرفة حقائق الأمور، فتمنع صاحبها من الوقوع في الخطإ والباطل، قال أبو إسماعيل الهروي: (الحِكْمَة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه[2]، وقال الإمام النَّووي: (الحِكْمَة، عبارة عن العلم المتَّصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النَّفس، وتحقيق الحقِّ، والعمل به، والصدِّ عن اتِّباع الهوى والباطل، والحَكِيم من له ذلك)[3] ، كما تطلق “الحكمة” كذلك على لون من التعبير هو خلاصة نظر عميق إلى الأشياء إلى الحياة، وما يضطرب فيها من أفكار، تصدر عن ذوي التجارب الغنية، والعقول الراجحة والأفكار النيرة، وقائلها يوصف حكيما، لأنه ينظر إلى الأشياء بعين الشمولية والتحليل الدقيق، ثم يصدر في شأنها حكما ينتشر لفظه على ألسنة الناس، ويبقى مذكورا يعلق بالأذهان والنفوس، يجدون فيه الهداية والتوجيه إلى ما يعينهم وينفعهم في الحال والمآل.
وتمتاز “الحكمة” اللفظية بالإيجاز وسبك الصياغة، وقوة التعبير، ويلزم منها في الأصل أن تكونَ صحيح المنحى، وهذا هو الفرق بينها وبين المثل، فالمثل قد يَشتهر ويكون معناه غير مسلم به، بخلاف الحكمة، فإنها وليدةُ فكر ناضج، وعقل متميز، يضع الكلمة في موضعها، والعبارة في سياقها، ومن أمثلة الحكم قوله:”إنك لا تجني من الشوك العنب”، وقولهم: “إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا”، وقولهم: “مصائب قوم عند قوم فوائد”، وفي الدارج المغربي قولهم: “كون سبع وكلني” ، وقولهم: “اللي بغا الزين يصبر على ثقيب الوذنين”.

الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية:

• الحكمة في القرآن الكريم:
وردت كلمة “الحكمة” معرفة بـ“أل“ أو نكرة في القرآن الكريم 20 مرة؛ أولها قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة البقرة: 129]، ومن ذلك قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ) [سورة البقرة: 269]، وآخرها قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سورة الجمعة: 2].
وجاءت “الحكمة” مقترنة بكلمة “كتاب” في 10 مواضع في آيات شتّى؛ منها قوله سبحانه: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) [النساء: 54]، ونصيب محمد ﷺ من تلك الآيات العشرين هو في 6 مرات، ولا غرو في ذلك؛ لأن هذا ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام أن يرزقهم نبياً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، وعن معنى الحكمة في القرآن الكريم يقول ابن عاشور: “فالحكمة هي المعرفة المحكمة، أي الصائبة المجردة عن الخطأ، فلا تطلق الحكمة إلا على المعرفة الخالصة عن شوائب الأخطاء وبقايا الجهل في تعليم الناس وفي تهذيبهم. ولذلك، عرّفوا الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية، بحيث لا تلتبس على صاحبها الحقائق المتشابهة بعضها ببعض ولا تخطئ في العلل والأسباب، وهي اسمٌ جامعٌ لكل كلامٍ أو علمٍ يراعى فيه إصلاح حال الناس واعتقادهم إصلاحاً مستمراً لا يتغير”.
• الحكمة في السنة النبوية:
قد وردت كلمة ”حكمة“ في الحديث النبوي، ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسُلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)”[4]، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: “ضمّني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: (اللَّهُمَّ عَلِّمْه الحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ)”[5]، وكذلك روي عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، أن رسول الله قال: (إن من الشعر حكمة)”[6]، قال ابن حجر العسقلاني: “قوله: (إن من الشعر حكمة) قولا صادقا مطابقا للحق. وقيل: أصل الحكمة المنع، فالمعنى إن من الشعر كلاما نافعا يمنع من السفه”[7].
فهذه جملة الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها وهناك أحاديث غيرها ترد على ألسنة الناس لكنها ضعيفة، وأشهرها ما روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ : (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها)، قال الترمذي، وهذا حَدِيثٌ وإن كان ضعيفا عند المحدثين، وفي سنده مقال، فإن معناه صحيح، وتقويه الأحاديث الصحيحة السابقة، وتشهد له نصوص الإسلام وروحه ومقاصده، وذلك أن المؤمن لا يزال طالبا للحق حريصا عليه، فكل من قال بالصواب أو تكلم بالحق قبلنا قوله وإن كان خصما أو عدوا، وقد قال تعالى:{ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا} المائدة:8، والعاقل يأخذ الحكمة من أي وعاء خرجت وعلى أي لسان ظهرت.

وفي الختام نقول إن حاجتنا اليوم ماسة لإحياء معالم علم التربية على التصوف النافع، والسلوك الصالح، المبني على الدليل، والمؤسس على الوسطية والاعتدال، مرتكزا ومجالا، وعلى عقيدة السلف الواضحة الناصعة.
وإن حاجة المشتغلين بفقه الفروع اليوم محتمة للانفتاح على مبادئ التربية والسلوك والمعارف الصوفية السنية النقية، فذلك أدعى أن يكون لقولهم أثر، ولجهدهم نفع، كما أن المشتغلين بالتصوف والمعارف الروحية مطالبون اليوم أيضا بمد جسور الحوار والانفتاح على الفقه والعلم الشرعي، فهما وتنزيلا، ليكون السير على بصيرة، والتربية على علم، ولا تعارض بين المنهجين، إلا في أذهان المتعصبين أشباه العلماء في الفريقين، فالحق لا يضاد الحق، بل يشهد له، كما جاء عن ابن رشد.
روي عن الإمام مالك رحمه الله تعالى: «من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن جمع بينهما فقد تحقق »، ويقول أبي القاسم الجنيد رحمه الله: “طريقتنا هذه مربوطة بالكتاب والسنة”، وقال أيضا: ”الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام“ وقال: «من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة».

ــــــــــ هوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. القاموس المحيط للفيروز أبادي: ص1415، لسان العرب لابن منظور 12/143، مختار الصحاح للرازي: ص 62 ، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 1/119، المصباح المنير للفيومي: 1/145، تاج العروس للزبيدي: 8/253، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/288،

2. منازل السائرين للهروي: 78

3. شرح النووي على مسلم:2/33

4. رواه البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، رقم الحديث: 73

5. رواه ابن ماجة، باب فضل ابن عباس، رقم: 166.

6. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، دار الريان للتراث، سنة النشر: 1407ه-1986م، ح:1، ص: 554.

7. المصدر نفسه، ص: 556.

الحكمة: 6

 لما كانت الغاية من الدعاء إنما هي حصول المراد، نبّه ابن عطاء الله السكندري هنا إلى خطورة استعجال ثمرته إبّان الدعاء، والإلحاح في ذلك، وينسى هذا الإنسان المستعجل أن الله الحي القيوم على مصالح عباده قد جعل لكل شيء أجلا محددا ووقتا معلوما في علمه سبحانه، تتحقق به مصلحة الناس وسعادتهم، قال تعالى: “فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستعجلون”.

يقول ابن عطاء الله السكندري : “لا يَكُنْ تأَخُّرُ أَمَدِ العَطاءِ مَعَ الإلْحاحِ في الدُّعاءِ مُوْجِباً لِيأْسِكَ. فَهُوَ ضَمِنَ لَكَ الإِجابةَ فيما يَخْتارُهُ لَكَ لا فيما تَخْتارُهُ لِنَفْسِكَ. وَفي الوَقْتِ الَّذي يُريدُ لا فِي الوَقْتِ الَّذي تُرْيدُ”، والإلحاح فى شىء ما هو: تكرره على وجه واحد، والدعاء هو: طلب مصحوب بأدب فى بساط العبودية لجناب الربوبية والموجب للشىء ما كان أصلا فى وجوده، و اليأس قطع المطامع.

والمؤمن يتعلق قلبه بمسألة يرجوها أو حاجة يرغب فيها ولكنه يتأدب في ذلك مع القدر والقضاء ويرجع فيه إلى وعد الله وعلمه، وهو حين يدعو يجعل دعاءه عبودية خالصة لا يخرمها عدم تحقق مطلوبه، أو تأخر مرغوبه، فهو يحمل همّ الدعاء وليس همّ الإجابة، لإن دوره أن يتقرب إلى ويدعو بما يعتقد صلاحه، ويترك لربه الإجابة لما يعلمه في ذلك.

و قد يمنعك لطفاً بك لكون ذلك المطلب لا يليق بك و يؤخر لك ذلك لدار الكرامة و البقاء و هو خيرا لك و ابقى، والمؤمن لا ييأس من مطلوبه أبدا، لأن الله طلب منا الدعاء أزلا، وضمن لنا الإجابة، ولكن الإجابة قد تتأخر عن وقتها وقد لا تتحقق رحمة بالإنسان المعروف بعجزه عن معرفة مصالحه، وفقه أموره قال تعالى: “وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة” القصص

وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل دعوة يدعو بها المؤمن فهي مستجابة ولكن بإحدى ثلاث طرق، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا . قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ . قَالَ : اللهُ أَكْثَرُ ).

وختاما  الشيخ عبد العزيز المهدوي رضى الله عنه : “من لم يكن فى دعائه تاركاً لاختياره، راضياً باختيار الحق تعالى له، فهو مستدرج ممن قيل له اقضوا حاجته فإنى أكره أن أسمع صوته، فإن كان مع اختيار الحق تعالى لا مع اختياره لنفسه كان مجاباً و إن لم يعط ، والأعمال بخواتمها“.

الحكمة: 5

الإجتهاد في الشيء إستفراغ الجهد والطاقة في طلبه، والتقصير هو التفريط والتضييع، والبصيرة ناظر القلب كما أن البصر ناظر القالب.

فإذا أراد الله فتح بصيرة العبد أشغله في الظاهر بخدمته وفي الباطن بمحبته ، فكلما عظمت المحبة في الباطن والخدمة في الظاهر قوي نور البصيرة ، حتى يستولى على البصر فيغيب نور البصر في نور البصيرة فلا يرى إلا ما تراه البصيرة من المعاني اللطيفة والأنوار القديمة.
وإذا أراد الله خذلان عبده أشغله في الظاهر بخدمة الأكوان وفي الباطن بمحبتها ، فلا يزال كذلك حتى ينطمس نور بصيرته فيستولى نور بصره على نور بصيرته ، فلا يرى إلا الحس ولا يخدم إلا الحس ، فيجتهد في طلب ما هو مضمون من الرزق المقسوم ويقصر فيما هو مطلوب منه من الفرض المحتوم.

قال الشيخ زروق وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنهما: البصيرة كالبصر ، أدنى شيء يقع فيه يمنع النظر، وإن لم ينته إلى العمى، فالخطرة من الشيء تشوش النظر وتكدر الفكر، والإرادة له تذهب بالخير رأساً والعمل به يذهب عن صاحبه سهماً من الإسلام فيما هو فيه ويأتي بضده ، فإذا أستمر على الشر تفلت منه الإسلام فإذا انتهى إلى الوقيعة في الأمة وموالاة الظلمة حباً في الجاه والمنزلة ، وحباً للدنيا على الآخرة ، فقد تفلت منه الإسلام كله ، ولا يغرنك ما توسم به ظاهراً فإنه لا روح له إذ الإسلام حب الله وحب الصالحين من عباده.
والشئ المضمون للعبد هو رزقه الذى يحصل له به قوام وجوده فى دنياه.

ومعنى كونه مضمونا أن الله تعالى تكفل بذلك ، وفرغ العباد عنه ، ولم يطلب منهم الاجتهاد فى السعى فيه ، ولا الاهتمام له.

والشئ المطلوب من العبد هو العمل الذى يتوصل به إلى سعادة الآخرة، والقرب من الله تعالى من عبادات وطاعات .

ومعنى كونه مطلوبا أنه موكول إلى اكتساب العبد له ، واجتهاده فيه، ومراعاة شروطه وأسبابه وأوقاته .

بهذا جرت سنة الله تعالى فى عباده، قال الله عز وجل – فى المعنى الأول الذى ضمنه للعبد – وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) . وقال تعالى – فى المعنى الثانى الذى طلبه منه – ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ) . وقال إبراهيم الخواص : العلم كله فى كلمتين .. لاتتكلف ما كفيت ، ولا تضيع ما استكفيت .

وقال سيدى ابن عطاء الله السكندرى فى التنوير فى قوله تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) أي قم بخدمتنا ، ونحن نقوم لك بقسمتنا ، وهما شيئان : شيء ضمنه الله لك ، فلا تتهمه ، وشيء طلبه منك ، فلا تهمله ، فمن اشتغل بما ضمن له عما طلب منه فقد عظم جهله ، واتسعت غفلته ، وقل أن ينتبه لمن يوقظه بل حقيق على العبد أن يشتغل بما طلب منه عما ضمن له ، إذا كان الله سبحانه وتعالى قد رزق أهل الجحود كيف لا يرزق أهل الشهود، وإذا كان سبحانه قد أجرى رزقه على أهل الكفران ، كيف لا يَجري رزقُه على أهل الإيمان؟ّ.

فمن قام بهذا الأمر على الوجه الذى ذكرناه من الاجتهاد فى الأمر المطلوب منه ، وتفريغ القلب عن الأمر المضمون له فقد انفتحت بصيرته ، وأشرق نور الحق فى قلبه ، وحصل على غاية المقصود ، ومن عكس هذا الأمر فهو مطموس البصيرة ، أعمى القلب ، وفعله دليل على ذلك.

فقد علمت أيها العبد أن الدنيا مضمونة لك ، أي مضمون لك منها ما يقوم بأَودكَ والآخرة مطلوبة منك ، أي العمل لها ، لقوله سبحانه وتعالى :{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} فكيف يثبت لك عقل أوبصيرة ، واهتمامك في ضمن لك – اقتطعك عن اهتمامك بما طلب منك من أمر الآخرة ، حتى قال بعضهم :{إن الله تعالى ضمن لنا الدنيا وطلب منا أمرالآخرة ، فليته ضمن لنا الآخرة ، وطلب منا الدنيا}.